الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم يقال لك: الوهم إنما يتصور عندك في الأمور الجزئية، وهذه القضايا كلية لا جزئية.

ويقال لك أيضا: هذا بعينه يرد عليك في تقسيم الوجود إلى: قائم بنفسه وبغيره، وقديم ومحدث، وجوهر وعرض، وعلة ومعلول، ونحو ذلك، فإن ما ذكرته من هذه القضايا يتناول هذه.

ويقال لك ما تعني بقولك: "إن المحسوسات إذا كان لها مباد وأصول كانت قبل المحسوسات".

أتعني به أن ما أحسسناه له مباد وأصول لم نحسها؟ أم تعني به أن ما يمكن أن يحس به يجب أن يكون له مبدأ لا يمكن الإحساس به؟

فإن عنيت الأول فهو مسلم، لكن لا يلزم من عدم إحساسنا بها أن لا يكون الإحساس بها ممكنا، ولا يقول عاقل: إن كل ما لم نشهده الآن لا يمكن أن نشهده بعد الموت، أو في وقت آخر، فإنه ما من عاقل إلا يجوز أن يكون فوق الأفلاك ما لا نشهده الآن، بل يجوز أن تكون هناك أفلاك ونجوم لا ندركها فضلا عن غيرها.

وإن قال: إنه لا بد أن يكون لكل ما يمكن أن يحس به مبدأ لا [ ص: 91 ] يمكن أن نحس به، فهذا ممنوع، وهو رأس المسألة ولم يذكر عليه دليلا.

وهو في "إشاراته" لم يذكر على ذلك من الأدلة إلا ما ذكره الرازي وأمثاله، فإنه قال: "في الوجود وعلله: إنه قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس، وأن ما لا يناله الحس بجوهره، ففرض وجوده محال، وأن ما لا يتخصص بمكان أو يوضع بذاته كالجسم، أو بسبب ما هو فيه كأحوال الجسم، فلا حظ له من الوجود".

قال: "وأنت يتأتى لك أن تتأمل نفس المحسوس، فتعلم منه بطلان قول هؤلاء، فإنك، ومن يستحق أن يخاطب، تعلمان أن هذه المحسوسات قد يقع عليها اسم واحد، لا على الاشتراك الصرف، بل بحسب معنى واحد، مثل اسم الإنسان، فإنكما لا تشكان في أن وقوعه على زيد وعمرو بمعنى واحد موجود، فذلك المعنى الموجود لا يخلو: إما أن يكون بحيث يناله الحس، أو لا يكون. فإن كان بعيدا من أن يناله الحس فقد أخرج التفتش من المحسوسات ما ليس بمحسوس، وهذا [ ص: 92 ] أعجب. وإن كان محسوسا فله لا محالة: وضع، وأين، ومقدار معين، وكيف معين، لا يتأتى أن يحس، بل ولا أن يتخيل إلا كذلك، فإن كل محسوس وكل متخيل فإنه يتخصص لا محالة بشيء من هذه الأحوال، وإذا كان كذلك لم يكن ملائما لما ليس بتلك الحال، فلم يكن مقولا على كثيرين يختلفون في تلك الحال. فإذن الإنسان من حيث هو واحد بالحقيقة، بل من حيث الحقيقة الأصلية التي لا تختلف فيها الكثرة غير محسوس، بل معقول صرف، وكذلك الحال في كل كلي".

فهذا لفظه، وأتباعه مشوا خلفه فأثبتوا ما ليس بمحسوس بإثبات الكليات المعقولة، وقد عرف بالاضطرار أن الكليات لا تكون كلية إلا في العقل لا في الخارج، بل ليس في الخارج كلي ألبتة، والذي يقال إنه كلي طبيعي لا يوجد إلا معينا جزئيا، فما كان كليا في العقل يوجد في الخارج معينا لا كليا، كما قد بسط في موضعه.

فهذا الكلام وأمثاله هو الذي يثبت به أن للموجود مبادئ لا يمكن أن يحس بها.

التالي السابق


الخدمات العلمية