الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال الأبهري: "والإعراض على قوله: يلزم المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير. قلنا: لا نسلم، وإنما يلزم الجمع بينهما، أن لو كان الواحد مسبوقا بالغير وغير مسبوق بالغير، وليس كذلك، فإن المسبوق بالغير لا يكون إلا الحركة، وغير المسبوق بالغير هو الجسم، فلا يلزم الجمع بين المسبوقية وعدم المسبوقية في شيء واحد".

قلت: وهذا الاعتراض فيه نظر، ولكن الاعتراض المتقدم: وهو [ ص: 187 ] أن المسبوق لغير آحاد الحركة لا جنسها، فكل من أجزائها مسبوق بالغير، وأما الجنس ففيه النزاع -اعتراض جيد، وإلا فإذا كانت الحركة من لوازم الجسم لم يكن سابقا لها، فكيف يقال: إن الحركة مسبوقة بالجسم؟

وكأن الأبهري لم يفهم مقصود القائل: إن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير، فظن أنه أراد أنها مسبوقة بالجسم، وإنما أراد أن الحركة تقتضي أن يكون بعض أجزائها سابقا على بعض.

قال الأبهري: "وأما قوله: لو كانت متحركة لكانت بحالة لا تخلو عن الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. قلنا: لا نسلم.

قوله: لو لم يكن كذلك لكان الحادث أزليا. قلنا: لا نسلم، وإنما يلزم ذلك لو كانت الحادث الواحد يصير بعينه أزليا، وليس كذلك، بل يكون قبل كل حادث آخر لا إلى أول، فلا يلزم قدم الحادث. أما قوله: فإنها لو كانت متحركة لكان الحادث اليومي موقوفا على انقضاء ما لا نهاية له. قلنا: لا نسلم، بل يكون الحادث اليومي مسبوقا بحوادث لا أول لها.

ولم قلتم بأن ذلك غير جائز، والنزاع ما وقع إلا فيه؟ وأما قوله بأن الحاصل من الحركة اليومية إلى الأزل جملة. قلنا: لا نسلم، وإنما يلزم ذلك أن لو كانت الحركات مجتمعة في الوجود ليحصل منها جملة ومجموع، واستدل هو على حدوث العالم بأن صانع العالم إن كان موجبا بالذات لزم دوام آثاره، فلا يكون في الوجود حادث. وإن كان [ ص: 188 ] فاعلا بالاختيار امتنع أن يكون مفعوله أزليا، لأنه يكون قاصدا إلى إيجاد الموجود، وتحصيل الحاصل محال. وقد اعترض بعضهم على دليله بأنه يجوز أن يكون بعضه حادثا له فاعل بالاختيار، وبعضه قديم له موجب بالذات، وجوزه بعضهم بأنه يجوز أن يكون موجبا بالذات، ومعلوله فاعل بالاختيار أحدث غيره".

قلت: وهذا الاعتراض ساقط، لأن ما كان فاعلا بالاختيار، فحدوث فعله بعد أن لم يكن حادث من الحوادث، فإذا كان مفعولا لعلة تامة موجبة، امتنع أن يتخلف عنها معلولها، ولا يجوز أن يحدث عنها شيء، ولا عن لازمها، ولا لازم لازمها، وهلم جرا.

وإن قدر أن البعض الحادث له فاعل واجب بنفسه غير فاعل للآخر، فهذا مع أنه لم يقله أحد، وأدلة التوحيد للصانع تبطله، فهو يبطل حجة القائلين بالقدم، لأن عمدتهم أن الواجب بنفسه لا يتأخر عنه فعله، فإذا جوزوا تأخر فعله عنه بطل أصل حجتهم.

وهذا الدليل الذي احتج به، قد ذكرنا في غير موضع أنه يبطل قول الفلاسفة بأنه صدر عن علة موجبة، وأن قولهم هذا يتضمن حدوث الحوادث بلا سبب.

التالي السابق


الخدمات العلمية