الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
(فصل)

وأما الوجه الثاني فقوله: إن مسمى الإنسان المشترك بين الأشخاص ممتنع أن يكون له قدر معنى وحيز معنى، وما أوردوه من أن [ ص: 273 ] هذا لا وجود له إلا في العقل، وأن النزاع في الموجودات الخارجية.

وجوابه: بأن الغرض تعقل أمر لا يثبت العقل له جهة ولا قدرا، وهذا يمنع كون تلك المقدمة بديهية.

فجوابه من وجوه:


أحدها: أن المثبتين إنما ادعوا أنه لا يوجد في الخارج موجودان إلا ولا بد أن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مباينا له، وأما ما في النفس من العلوم الكلية فلم ينفوه، ومن المعلوم أنه لا يلزم من كون العلوم الكلية ثابتة في النفس إمكان ثبوتها في الخارج، وإذا لم يلزم ذلك لم يلزم إمكان وجود موجود في الخارج لا محايث للآخر ولا مباين له.

وأما قوله: المقصود أنه ممكن تعقل أمر لا يثبت له العقل جهة ولا قدرا.

فيقال: بتقدير صحة ذلك، هذا يفيد إمكان تعقل ثبوته في النفس، لا يفيد إمكان تعلقه في الخارج، فمورد النزاع لا دليل عليه، وما أثبته ليس مورد النزاع.

الوجه الثاني: أن يقال: هذه المعاني الكلية هي كلية باعتبار مطابقتها لمفرداتها، كما يطابق اللفظ العام لأفراده. وأما هي في نفسها [ ص: 274 ] فأعراض معينة، كل منها عرض معين قائم في نفس معينة، كما يقوم اللفظ المعين بالفم المعين، والخط المعين بالورق المعين، فالخط يطابق اللفظ، واللفظ يطابق المعنى الذهني، والمعنى يطابق الموجود الخارجي، وكل من تلك الثلاثة قد يقال له: عام، وكلي، ومطلق، باعتبار شموله للأعيان الموجودة في الخارج، وأما هو في نفسه فشيء معين مشخص.

وإذا كان كذلك فالإنسان المطلق من حيث هو الذي تصوره الذهن هو علم، وعرض معين في محل معين. فإذا قدر أن محل العلم وغيره من صفات الإنسان، كالحب والرضا والبغض، وغير ذلك مما يشار إليه إشارة حسية، كما يقوله جمهور الخلق، كانت الإشارة إلى ما فيه من الأعراض، كالإشارة إلى كل عرض قائم بمحله. وحينئذ فإذا كان المشار إليه حسيا له قدر معين، وحيز معين، فلمحل الصور الذهنية قدر معين وحيز معين، وله أيضا جهة.

والكليات الثابتة في النفس كالجزئيات الثابتة فيها، فالنفس تعلم الإنسان المطلق والإنسان المعين، والإشارة إلى أحدهما كالإشارة إلى الآخر، فلا فرق حينئذ بين تصور الإنسان المشترك الكلي، والإنسان المعين الجزئي من هذه الجهة، لكن أحدهما لا يوجد إلا في النفس، والآخر يوجد في الخارج، ويوجد تصوره في النفس.

الوجه الثالث: أن يقال: هذه الماهية المطلقة من حيث هي هي، [ ص: 275 ] إما أن يقال: هي ثابتة في الخارج، وإما أن لا يقال هي ثابتة في الخارج، فإن من الناس من يقول بثبوت الماهيات المجردة منفردة عن الأعيان، كالقائلين بالمثل الأفلاطونية.

ومن الناس من يقول بثبوتها مقارنة للمعينات، والمطلق جزء من المعين، ويقولون: المطلق لا بشرط موجود في الخارج، وأما المطلق بشرط الإطلاق فليس موجودا في الخارج، ويسمون المطلق لا بشرط الكلي الطبيعي، والمطلق بشرط الإطلاق هو العقلي، وكونه كليا ومطلقا هو الكلي المنطقي، إذ العقل عندهم مركب من الطبيعي والمنطقي، فيقول: الإنسان من حيث هو -مع قطع النظر عن جميع قيوده- هو الطبيعي، وكونه عاما وكليا ومطلقا هو المنطقي، والمؤلف منهما هو العقلي.

وآخرون يقولون: ليس في الخارج ما هو كلي في الخارج أصلا، بل ليس في الخارج إلا ما هو معين مخصوص، ولكن ما كان في النفس كليا يوجد في الخارج، ولا يوجد في الخارج إلا معينا.

فإذا قيل: الكلي الطبيعي موجود في الخارج، وأريد به: أن الطبيعة التي يجردها العقل كلية توجد في الخارج ولا توجد فيه إلا معينة فهذا صحيح. وإذا قيل: إن الطبيعة الكلية، مع كونها كلية، توجد في الخارج، أو أن الكلي الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، جزء من المعين الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، أو أن هذا الإنسان المعين مركب من جوهرين: أحدهما حيوان، والآخر ناطق، أو من عرضين: حيوانية، وناطقية، أو نحو هذه المقالات، فهذا كله [ ص: 276 ] باطل، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا أن يقال: هذه الكليات: إما أن يقال: إنها ثابتة في الخارج، وأما أن لا يقال. فإن لم يقل بذلك، لم يكن فيها حجة على إمكان وجود موجود في الخارج لا يشار إليه. وإذا قيل بثبوتها في الخارج، فمن المعلوم أن هذا ليس من العلوم البديهية الأولية، بل لم يقل هذا إلا طائفة من أهل المنطق اليوناني، وهم متناقضون في ذلك، ويقولون القول، ويقولون ما يناقضه، وبعضهم ينكر على بعض إثبات ذلك.

وإذا كان كذلك لم يصلح أن يجعل مثل هذه القضية مقدمة في إبطال قضية اعترف بها جماهير الأمم، واعترفوا بأنها مركوزة في فطرهم، مغروزة في أنفسهم، وأنهم مضطرون إليها، لا يمكنهم دفعها عن أنفسهم.

لكن طائفة منهم تقول: إنها مع هذا خطأ، لاعتقادهم أنها -وإن كانت ضرورية في فطرتهم- ففطرتهم تسلم مقدمات تنتج نقيضها.

وهؤلاء لا ينازعون أنها فطرية، مبتدأة في النفوس، ولكن يقدحون فيها بطرق نظرية.

فإذا قال لهم المثبتون: نحن لا نقبل القدح في القضايا المبتدأة في النفس بالقضايا النظرية، أو قالوا: نحن لا نسلم لكم المقدمات التي تستدلون بها على نقيض هذه القضايا، كما لا نسلم لكم ثبوت الكليات في الخارج ونحو ذلك، ظهر انقطاع المعارض لهم، وأنهم يريدون دفع القضايا الضرورية بمجرد الدعاوى الوهمية الخيالية.

[ ص: 277 ] (فصل)

التالي السابق


الخدمات العلمية