الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال: "فإذا تبين هذا فلنرجع إلى حيث كنا فنقول: إن [ ص: 227 ] الذي بقي علينا من هذا الجزء من المسائل المشهورة هي مسألة الرؤية، فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي، بوجه ما، داخلة في هذا الجزء، أعني في الجزء المعدوم" يعني جزء التنزيه، فإنه تكلم في التنزيه بعد تكلمه في الصفات الثبوتية، فقال: "فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي، بوجه ما، داخلة في هذا الجزء، أعني في الجزء المعدوم، لقوله تعالى: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار [سورة الأنعام: 103]، ولذلك أنكرتها المعتزلة، وردت الآثار الواردة في الشرع بذلك، مع كثرتها وشهرتها، فشنع الأمر عليهم، والسبب في وقوع هذه الشبهة في الشرع أن المعتزلة لما اعتقدوا انتفاء الجسمية عنه سبحانه، واعتقدوا وجوب التصريح بهذا لجميع المكلفين، وجب عندهم إذا انتفت الجسمية أن تنتفي الجهة، وإذا انتفت الجهة انتفت الرؤية، إذ كل مرئي في جهة من الرائي، فاضطروا، لهذا المعنى إلى رد الشرع المنقول، وأعلوا الأحاديث بأنها أخبار آحاد. وأخبار الآحاد لا توجب العلم، مع أن ظاهر القرآن معارض لها، أعني قوله: لا تدركه الأبصار [سورة الأنعام: 103] ".

[ ص: 228 ] قال: "وأما الأشعرية فراموا الجمع بين الاعتقادين، أعني بين انتفاء الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس، فعسر ذلك عليهم، ولجأوا في ذلك إلى حجج سوفسطائية مموهة، أعني الحجج التي توهم أنها حجج وهي كاذبة، وذلك أنه يشبه أن يكون يوجد في الحجج ما يوجد في الناس، أعني كما يوجد في الناس الفاضل التام الفضيلة، يوجد فيهم من هو دون ذلك في الفضل، ويوجد فيهم من يوهم أنه فاضل وليس بفاضل، وهو المرائي، وكذلك الأمر في الحجج، أعني أن منها ما هو في غاية اليقين، ومنها ما هو دون اليقين، ومنها حجج مرائية، وهي التي توهم أنها يقين وهي كاذبة. والأقاويل التي سلكها الأشعرية في هذه المسألة منها أقاويل في دفع دليل المعتزلة، ومنها أقاويل لهم في جواز إثبات الرؤية لما ليس بجسم، وأنه ليس يعرض من فرضها محال. فأما ما عاندوا به قول المعتزلة: إن كل مرئي فهو في جهة من الرائي، فمنهم من قال: إن هذا إنما هو حكم الشاهد لا حكم الغائب، وإن هذا الموضع ليس هو من المواضع التي يجب فيها نقل حكم الشاهد إلى الغائب، وإنه جائز أن يرى الإنسان ما ليس في جهة، إذ كان جائزا أن يرى الإنسان بالقوة المبصرة نفسها [ ص: 229 ] دون عين، وهؤلاء اختلط عليهم إدراك العقل مع إدراك البصر. فإن العقل هو الذي يدرك ما ليس في جهة، أعني في مكان. وأما إدراك البصر، فظاهر من أمره أن من شرطه أن يكون المرئي منه في جهة، أعني في مكان، ولا في كل جهة، بل في جهة ما مخصوصة.

ولذلك ليس تتأتى الرؤية بأي وضع اتفق أن يكون البصر من المرئي، بل بأوضاع محدودة وشروط محدودة أيضا. وهي ثلاثة أشياء: حضور الضوء، والجسم الشفاف المتوسط بين البصر والمبصر، وكون المبصر ذا لون. والرد لهذه الأمور المعروفة بنفسها في الإبصار هو رد للأوائل المعلومة بالطبع للجميع، وإبطال لجميع علوم النظر والهندسة. وقد قال القوم -أعني الأشعرية- إن أحد المواضع التي يجب فيها أن ينقل حكم الشاهد إلى الغائب هو الشرط، مثل حكمنا بأن كل عالم حي، لكون الحياة تظهر في الشاهد شرطا في وجود العلم. قلنا لهم: وكذلك يظهر في الشاهد أن هذه الأشياء هي شرط في الرؤية، فألحقوا الغائب فيها بالشاهد، على أصلكم".

التالي السابق


الخدمات العلمية