الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والمقصود أن هذا الكلام عامة من تكلم به من المتأخرين أخذوا من ابن سينا. ومن تدبر كلامه وكلام أتباعه فيه وجده في غاية التناقض والفساد، فإنه قال في "إشاراته"ــــــ التي هي كالمصحف لهؤلاء المتفلسفة الملحدة - لما ذكر مواد القياس، وتكلم عن "القضايا من جهة ما يصدق بها" وذكر أن: "أصناف القضايا المستعملة فيما بين القائسين ومن يجري مجراهم أربعة: مسلمات، ومظنونات وما معها. ومشتبهات بغيرها، ومتخيلات".

قلت: المتخيلات هي مواد القياس الشعري، والمشتبهات هي مواد السوفسطائي، وما قبل ذلك هو مواد البرهاني والخطابي والجدلي.

قال: " والمسلمات: إما معتقدات، وإما مأخوذات".

والمعتقدات أصنافها ثلاثة: الواجب قبولها، والمشهورات، [ ص: 20 ] والوهميات. والواجب قبولها: أوليات، ومشاهدات، ومجربات وما معها من الحدسيات والمتواترات وقضايا أقيستها معها".

وتكلم عن القضايا الواجب قبولها بما ليس هذا موضعه، وقد بسط الكلام فيما في منطقهم اليوناني من الفساد - مثل كلامهم في الفرق بين الذاتيات واللازمة للماهية، ودعواهم أن الحد الحقيقي يفيد تعريف الماهية، وأن الحقائق مركبة من الأجناس والفصول، وكلامهم في الكليات الخمسة، وما ذكروه في مواد البرهان، ودعواهم أن التصورات المكتسبة لا تنال إلا بحدهم، والتصديقات المكتسبة لا تحصل إلا بمثل قياسهم، وغير ذلك مما ليس هذا موضعه.

والمقصود هنا أنه قال: "وأما القضايا الوهمية الصرفة فهي قضايا كاذبة، إلا أن الوهم الإنساني يقضي بها قضاء شديد القوة، لأنه ليس يقبل ضدها ومقابلها، بسبب أن الوهم تابع للحس، فما لا يوافق المحسوس لا يقبله الوهم، ومن المعلوم أن المحسوسات إذا كان لها مبادئ وأصول كانت تلك قبل المحسوسات، ولم تكن محسوسة، ولم يكن وجودها على نحو وجود المحسوسات، فلم يمكن أن يتمثل ذلك [ ص: 21 ] الوجود في الوهم، ولهذا كان الوهم مساعدا للعقل في الأصول التي تنتج وجود تلك المبادئ، فإذا تعديا معا إلى النتيجة نكص الوهم، وامتنع عن قبول ما سلم موجبه. وهذا الصنف من القضايا أقوى في النفس من المشهورات التي ليست بأولية، وتكاد تشاكل الأوليات وتدخل في المشبهات بها، وهي إحكام للنفس في أمور متقدمة على المحسوسات، أو أعم منها، على نحو ما يجب أن لا يكون لها، وعلى نحو ما يجب أن يكون أو يظن في المحسوسات، مثل اعتقاد المعتقد أنه لا بد من خلاء ينتهي إليه الملاء إذا تناهى، وأنه لا بد في كل موجود أن يكون مشارا إلى جهة وجوده.

وهذه الوهميات لولا مخالفة السنن الشرعية لها، لكانت تكون مشهورة، وإنما يثلم في شهرتها الديانات الحقيقية والعلوم الحكمية، ولا يكاد المدفوع عن ذلك يقاوم نفسه في دفع ذلك، لشدة استيلاء الوهم على أن ما يدفعه الوهم ولا يقبله إذا كان في المحسوسات [ ص: 22 ] فهو مدفوع منكر، بل إنه باطل شنع، بل تكاد أن تكون الأوليات والوهميات التي لا تزاحم من غيرها مشهورة ولا تنعكس".

قلت: وقد ذكر في غير هذا الموضع شرح أقوى الدراكة، وذكر القوى التي تتخيل بها المحسوسات والتي تحفظ بها، وسمى الأولى على اصطلاحهم "الحس المشترك" والثانية "الخيال".

قال: "وأيضا فالحيوانات - ناطقها وغير ناطقها - تدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة، ولا متأدية من طريق الحواس، مثل إدراك الشاة معنى في الذئب غير محسوس، وإدراك الكبش معنى في النعجة غير محسوس: إدراكا جزئيا يحكم به كما يحكم الحس بما يشاهده، فعندك قوة هذا شأنها، وأيضا فعندك وعند كثير من الحيوانات العجم قوة تحفظ هذه المعاني بعد حكم الحاكم بها، غير الحافظ للصور" وهذه هي الذاكرة.

التالي السابق


الخدمات العلمية