الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 159 ] وقول النفاة للمباينة والمداخلة جميعا، لما كان في حقيقة الأمر نفيا للمتقابلين المتناقضين، بمنزلة قول القرامطة، الذين يقولون: لا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز - كان قولهم في العقل أفسد من قول من لا يؤمن بمحمد ولا بمسيلمة، فإن كلاهما مبطل، لكن بطلان سلب النقيضين وما هو في معنى النقيضين، أبين في العقل من الإقرار بنبوة رسول من رسل الله صلى الله عليهم أجمعين، فلهذا لا تكاد تجد أحدا من نفاة المباينة والمداخلة جميعا، أو من الواقفة في المباينة، يمكنه مناقضة الحلولية والاتحادية مناقضة يبطل بها قولهم، بل أي حجة احتج بها عليهم عارضوه بمثلها، وكانت حجتهم أقوى من حجته.

فإذا قال لهم: لا يعقل الحلول إلا حلول العرض، فيكون الحال مفتقرا إلى المحل، أو قال ما هو أبلغ من هذا مما احتج به الأئمة عليهم: لو كان حالا لم يخل من المباينة والمماسة، فإن القائم بنفسه إذ حل في القائم بنفسه لم يخل من هذا وهذا - قالوا للنفاة: هذا إنما يكون إذا كان الحال متحيزا أو قائما بمتحيز، أو قالوا: هذا هو المعقول من حلول الأجسام وأعراضها، فأما إذا قدرنا موجودا قائما بنفسه ليس بجسم ولا متحيز، لم يمتنع أن يكون حالا بلا افتقار إلى المحل، ولا مماسة ولا مباينة.

[ ص: 160 ] فإن قال إخوانهم من النفاة للعلو والمباينة: هذا لا يعقل.

قالوا لهم: إذا عرضنا على العقل وجود موجود، قائم بنفسه، ولا مباين للعالم ولا محايث له، ولا داخل فيه، ولا خارج عنه، وعرضنا على العقل وجود موجود في العالم: قائم بنفسه، لا مماس له، ولا مباين له، وليس بجسم ولا متحيز، أو وجود موجود مباين له، وليس بجسم ولا متحيز - كان هذا أقرب إلى العقل.

وذلك أن وجود موجود لا يشار إليه، ولا يكون محيزا: لا جسما ولا جوهرا: إما أن يكون ممكنا، وإما أن لا يكون، فإن لم يكن ممكنا بطل قول من يثبت موجودا، لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يشار إليه، وكان حينئذ قول من أثبت موجودا خارج العالم أو داخله، وقال: إنه لا يشار إليه - أقل فسادا في العقل من هذا، وإن كان وجود موجود لا يشار إليه، ولا يكون جسما ولا متحيزا، ممكنا في العقل، فمن المعلوم إذا قيل مع ذلك: إنه خارج العالم، لم يجب أن يشار إليه، ولا يكون جسما منقسما ولا مطابقا موازيا محاذيا للعرش، لا أكبر منه ولا أصغر ولا مساويا.

وإن قيل مع ذلك: إنه حال في العالم، لم يجز أن يقال: إنه مماس أو مباين، لأن المماسة والمباينة عندهم من عوارض الجسم المشار إليه، فما [ ص: 161 ] لا يكون جسما لا يشار إليه لا يوصف لا بهذا ولا بهذا، وإذا كان قائما بنفسه لا يشار إليه امتنع أن يقال: هو عرض أو كالعرض المفتقر إلى المحل، بل إثبات ما لا يشار إليه، وهو داخل العالم أو خارجه أقرب إلى ما تثبته العقول من إثبات ما لا يشار إليه، ولا هو داخل العالم ولا خارجه.

ومما يقرر هذه الحجج: أن هؤلاء النفاة لما أرادوا بيان إمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، وأن نفي ذلك ليس معلوما بضرورة العقل -احتجوا على ذلك بإثبات الكليات، واحتجوا بأن الفلاسفة وطائفة من متكلمي المسلمين من المعتزلة والشيعة والأشعرية أثبتوا النفس، وقالوا: إنها لا داخل البدن ولا خارجه، ولا توصف بحركة ولا سكون، ولا مباينة لغيرها، ولا حلول فيه.

قالوا: وقول هؤلاء ليس معلوم الفساد بالضرورة، والمثبتون لما طلبوا بيان فساد قولهم، بينوا أن الكليات وجودها في الأذهان لا في الأعيان، وأن قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة حتى عند جماهير المتكلمين من المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية