الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك سائر الأخلاق التي بها مدح وقدح، مثل البر والفجور والعفة، والصدق والكذب، والكرم واللؤم، وأمثال ذلك، فإن هذه معان تقوم بالشخص المحسوس، ونفس الأخلاق القائمة فيه ليست بمحسوسة، وإنما يحس بالأفعال الظاهرة الصادرة عنها، كما يحس بالأفعال الظاهرة الصادرة عن الصداقة والعداوة.

ومعلوم أن إدراك هذه الأمور هي مما يدخل في مسمى العقل والعلم والمعرفة عند عامة العقلاء، بل إدراك كون المعروف معروفا، وكون المنكر منكرا، هو أيضا مما يدخل في "الوهم" على اصطلاحهم، فإن المعروف هو المحبوب الموافق الملائم، والمنكر هو المكروه المخالف المنافي، وما يدرك به هذه المعاني من الأمور الحسية وهم، بل على قولهم كل معنى يدرك في الأعيان المحسوسة فإدراكه بالوهم، ولا يبقى فرق بين الوهميات والعقليات في مثل هذا، إلا كون الوهميات جزئية والعقليات كلية.

ومعلوم أن إدراك كثير من هذه المعاني من خواص العقل، ومما يبين هذا أن الرجل إذا رأى امرأته مع من يظن به السوء كان هذا إدراكا لأمر [ ص: 55 ] غير محسوس في المحسوس، وهو إدراك ما ينافيه، وهو ميل الأجنبي إلى امرأته، وميل امرأته إليه. وكذلك المرأة إذا وجدت مع زوجها امرأة أخرى فظنت أن بينهما اتصالا وحصلت لها الغيرة، فالغيرة إنما تحصل بهذه القوة، فإن الغيرة من باب كراهة المؤذي وبغضه، وهو من جنس إدراك العداوة فيما يغار منه، كما أن الرجل يميل إلى أبيه وأمه وزوجته لما يستشعره من محبتهم ومودتهم، وإدراك ما منهم من المحبة والمودة هو أيضا عندهم وهم، لأنه إدراك في المحسوس بما ليس بمحسوس، وهو الولاية التي بينهما، كما قالوا في إدراك التيس معنى في الشاة، وإذا رأى إنسان امرأة أجنبية فقد يدرك منها أنها تميل إليه، فيكون كإدراك التيس معنى في الشاة، وقد يدرك منها أنها تنفر عنه، فيكون كإدراك الشاة معنى في الذئب، وهذا باب واسع.

والمقصود أن يجمع بين هذا وبين ما قاله ابن سينا في "مقامات العارفين" وهو خاتمة مصحفهم، وقد قال الرازي: "هذا الباب أجل ما في هذا الكتاب، فإنه رتب علم الصوفية ترتيبا ما سبقه إليه من قبله، ولا يلحقه من بعده".

وأقره الطوسي على هذا الكلام وقال: "قد ذكر الفاضل [ ص: 56 ] الشارح أن هذا الباب أجل ما في هذا الكتاب، فإنه رتب فيه علوم الصوفية ترتيبا ما سبقه إليه من قبله ولا لحقه من بعده".

وهذا الذي هو غاية ما عند هؤلاء من معارف الصوفية إذا تدبره من يعرف ما بعث الله به رسوله، وما عليه شيوخ القوم -المؤمنون بالله ورسوله- المتبعون للكتاب والسنة، تبين له أن ما ذكره في الكتاب بعد كمال تحقيقه لا يصير به الرجل مسلما، فضلا عن أن يكون وليا لله، وأولياء الله هم المؤمنون المتقون، فإنه غايته هو الفناء في التوحيد الذي وصفه، وهو توحيد غلاة الجهمية المتضمن نفي الصفات، مع القول بقدم الأفلاك، وأن الرب موجب بالذات لا فاعل بمشيئته ولا يعلم الجزئيات، ولو قدر أنه فناء في توحيد الربوبية المتضمن للإقرار بما بعث الله به رسوله من الأسماء والصفات، لم يكن هذا التوحيد وحده موجبا لكون الرجل مسلما، فضلا عن أن يكون عارفا وليا لله، إذ كان هذا التوحيد يقر به المشركون عباد الأصنام، فيقرون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وإنما يجعل الفناء في هذا التوحيد هو غاية العارفين صوفية هؤلاء الملاحدة كابن الطفيل صاحب رسالة "حي بن يقظان" وأمثاله، ولهذا يستأنسون بما يجدونه من كلام أبي حامد [ ص: 57 ] موافقا لقولهم، إذ كان في كثير من كلامه ما يوافق الباطل من قول هؤلاء، كما في كثير من كلامه رد لكثير من باطلهم.

ولهذا صار كالبرزخ بينهم وبين المسلمين، فالمسلمون ينكرون ما وافقهم فيه من الباطل عند المسلمين، وهم ينكرون عليه ما خالفهم فيه من الباطل عند المسلمين.

التالي السابق


الخدمات العلمية