الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فقد بين الإمام أحمد ما هو معلوم بصريح العقل وبديهته، من أنه لا بد إذا خلق الخلق من أن يخلقه مباينا له أو محايثا له، ومع المحايثة: إما [ ص: 144 ] أن يكون هو في العالم، وإما أن يكون العالم فيه، لأنه سبحانه قائم بنفسه، والقائم بنفسه إذا كان محايثا لغيره، فلا بد أن يكون أحدهما حالا في الآخر، بخلاف ما لا يقوم بنفسه كالصفات، فإنها قد تكون جميعا قائمة بغيرها.

فهذا القسم لم يحتج أن يذكره لظهور فساده، وأن أحدا لا يقول به، إذ من المعلوم لكل أحد أن الله تعالى قائم بنفسه، لا يجوز أن يكون من جنس الأعراض التي تفتقر إلى محل يقوم به.

وكذلك من هذا الجنس قول من يقول: لا هو مباين ولا محايث، لما كان معلوما بصريح العقل بطلانه، لم يدخله في التقسيم، إذ من المستقر في صريح العقل أن الموجود: إما مباين لغيره، وإما مداخل له، فانتفاء هذين القسمين يبطل قول من يجعله لا مباينا ولا مداخلا كالمعدوم، وقول من يجعله حالا في العالم مفتقرا إلى المحل كالأعراض، إذ المفتقر إلى المحل لا يقوم بنفسه، ولا يكون غنيا عما سواه، فيمتنع أن يكون واجب الوجود بنفسه.

ولهذا لم يقل مثل هذا أحد من العقلاء، وإن قال بعضهم ما يستلزم ذاك، فما كل من قال مذهبا التزم لوازمه.

وقد نفى أيضا قول من يقول: هو في كل مكان بتقسيم آخر من هذا الجنس، إذ القائل بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، لا يمكنه أن [ ص: 145 ] ينفي قول من يقول: إنه في كل مكان، لأنه إن جوز وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يقبل الإشارة إليه، لم يمكنه مع هذا السلب أن ينفي قول من يقول: هو في كل مكان لا كالجسم مع الجسم، ولا كالعرض مع العرض أو الجسم، فإنه إذا احتج على نفي ذلك بأنه لو كان في كل مكان للزم احتياجه إلى محل، أو نحو ذلك، قال له المنازع: هو في كل مكان، وهو مع ذلك لا يحتاج إلى محل، فإن المحتاج إلى المحل إنما هو العرض أو الجسم، وهو ليس بجسم ولا عرض، بل هو لا مماس للأشياء ولا مباين لها، إذ المماسة والمباينة من صفات الجسم، وهو ليس بجسم.

كما قد يقول: إنه في كل مكان، وليس بحال ولا مماس ولا مباين، فإذا قال النافي: هذا لا يعقل، قال له نظيره الذي يقول: لا داخل العالم ولا خارجه: وقولك أيضا لا يعقل، فكلا القولين مخالف للمعروف في العقول، فليس إبطال أحدهما دون الآخر بأولى من العكس.

وإنما يمكن أن يرد على الطائفتين أهل الفطر السليمة الذين لم يقولوا ما يناقض صريح العقل.

ومن المعلوم أن من قال: إنه في العالم، مثل كون القائم بنفسه في [ ص: 146 ] القائم بنفسه -كان قوله أقل فسادا من قول من قال: إنه في العالم كالقائم بغيره مع القائم بنفسه، فإن هذا لا يقوله عاقل، فإذا بطل الأول بطل الثاني.

فأبطل الإمام أحمد هذا القول أيضا فقال: "بيان ما ذكره الله في القرآن من قوله تعالى: وهو معكم [سورة الحديد: 4].

التالي السابق


الخدمات العلمية