الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال الرازي: "الوجه الثاني: لو كان مشارا إليه لكان متناهيا من جميع الجوانب لما سبق من تناهي الأبعاد، ولأن عدم تناهيه إن كان من جميع الجوانب فإنه مخالط للعالم وما فيه من القاذورات، تعالى عنه، وإن كان من بعضها، فالجانب المتناهي، إن وافق غير المتناهي في الماهية، صح على المتناهي أن ينقلب غير متناه، وبالعكس، فصح عليه الفصل والوصل، وإن خالفه فيها، وكل مركب من أجزاء مختلفة الطبائع ففيه أجزاء بسيطة، فأمكن على كل منها أن يماس ما على يمينه ويساره وبالعكس، فصح عليه الوصل والفصل، وكل ما كان كذلك كان تأليفه بمؤلف، تعالى عنه، وكل متناه من جميع الجوانب أمكن وجوده أزيد وأنقص مما وجد، [ ص: 300 ]

فاختصاصه بذلك القدر المخصص، ولأنه لو كان متناهيا من جميع الجوانب، لم يكن فوق كل الموجودات، لأنه يكون فوقه أمكنة خالية عنه، والخصم ينفيه".

فيقال: الاعتراض على هذا من وجوه:

أحدها: قول من يقول: هو فوق العرش، ولا يوصف بالتناهي ولا بعدمه إذ لا يقبل واحدا منهما، وهو قول من تقدم ممن يقول: هو فوق العرش ولا يوصف بأن له قدرا، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف، من الكلابية والكرامية والأشعرية، ومن وافقهم من أتباع الأئمة من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم.

وإذا قال لهم النفاة: هذا ممتنع في بديهة العقل.

قالوا لهم: القول بوجود موجود لا يشار إليه ولا يقبل الوصف بالنهاية وعدمها، ولا بدخول العالم ولا بخروج منه، أظهر فسادا في بديهة العقل، فإنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود خارج العالم بائن منه، لا يوصف بثبوت النهاية ولا انتفائها، ووجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، ولا بائن ولا محايث ولا متناه ولا غير متناه -كان الثاني أظهر فسادا في العقل كما تقدم نظيره.

القول الثاني: قول من يقول: هو غير متناه: إما من جانب، [ ص: 301 ] وإما من جميع الجوانب، كما قال ذلك طوائف أيضا من أهل الكلام والفقهاء وغيرهم، وحكاه الأشعري في "المقالات" عن طوائف.

فإذا قيل لهم: هذا ممتنع.

قالوا: قول منازعينا أظهر امتناعا.

وإذا قيل لهم: يلزمكم أن يكون مخالطا للعالم.

قالوا: منازعونا منهم من يقول: هو بذاته في كل مكان، ومنهم من ينفي ذلك، ونحن يمكننا أن نقول كما قال هؤلاء وهؤلاء، وإذا ادعى هؤلاء إمكان ذلك من غير مخالطة، ادعينا مثل ذلك.

والقول الثالث: قول السلف والأئمة، وأهل الحديث والكلام والفقه والتصوف، الذين يقولون: له حد لا يعلمه غيره.

فإذا قيل لهؤلاء: كل متناه من جميع الجوانب أمكن وجوده أزيد وأنقص مما وجد، واختصاصه بذلك القدر المخصص منفصل - منعوا هذا كما تقدم ذكره، وقالوا: لا نسلم أن كل ما اختص بقدر افتقر إلى مخصص منفصل عنه، ولا نسلم أن كل ما ثبت لواجب الوجود من خصائصه -يمكن أن يوجد بخلاف ذلك.

[ ص: 302 ] وتقدم الكلام على هاتين المقدمتين، واعتراف هؤلاء المحتجين بهما بفسادهما.

وأما قوله: "لو كان متناهيا من جميع الجوانب لم يكن فوق كل الموجودات، لأنه يكون فوقه أمكنة خالية منه".

فكلام ساقط، لأنه ليس هناك شيء موجود: لا مكان ولا غير مكان، وإنما هناك: إما خلاء هو عدم محض ونفي صرف ليس شيئا موجودا على قول طائفة، وإما أنه لا يقال هناك لا خلاء ولا ملاء.

وعلى كل تقدير فليس هناك شيء موجود، بل يقال لمن احتج بهذا: أنت تقول ليس فوق العالم شيء موجود، ولا وراء العالم شيء موجود، مع أنه متناه عندك، فكيف يجب أن يكون فوق رب العالمين شيء موجود؟!

ثم قال: "أنتم تزعمون أنكم تحتجون بالمعقولات اليقينية لا بالمقدمات الجدلية، فهب أنه لا يكون فوق جميع الموجودات، فأين دليلكم العقلي على امتناع هذا؟".

التالي السابق


الخدمات العلمية