الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ففي الجملة ليس من شرط الصورة الوهمية عندهم أن يدركها الوهم بلا توسط شيء محسوس، بل لا تدرك تلك المعاني إلا في الأشياء المحسوسة، ولا بد أن تدرك تلك الأشياء المحسوسة فيكون الوهم مقارنا للحس، لا بد من ذلك، وإلا فلو أدرك الوهم ما يدركه مجردا عن الحس لكان يدرك ما يدركه لا في أعيان محسوسة، فلا بد أن يدرك بباطنه، وهو القوة المسماة بالوهم عندهم، وبظاهره، وهو الحس: ما في المدرك من الأمر الباطن، وهو المعنى كالصداقة والعداوة، والظاهر، وهو الشخص الذي هو محل ذلك.

وعلى هذا فميل كل جنس إلى ما يناسبه في الباطن هو بسبب إدراك هذه القوة، كما يتفق في المتحابين والمتباغضين، والمتحابون قد يكون تحابهم لاشتراكهم في التعاون على ما ينفعهم ودفع ما يضرهم، كما يوجد في أجناد العساكر، وأهل المدينة الواحدة، وأهل الدين الواحد، والنسب الواحد، ونحو ذلك.

[ ص: 53 ] وفي الجملة فميل الحيوان إلى ما يظن أنه ينفعه، ونفوره عما يظن أنه يضره: بسبب هذه القوة، فإن إدراكه كون هذا نافعا له موافقا له ملائما له، وكون هذا ضارا له مخالفا له منافرا له: هو بهذه القوة.

وعلى هذه فينبغي أن يكون إدراك ما في الأغذية والأدوية من الملائمة هو بهذه القوة، فإن الإنسان يتوهم في الخبز أنه يلائمه إذا أكله، كما يتوهم الفرس ذلك في الشعير، ويتوهم في السيف أنه يضره إذا ضرب به، كما يتوهم الحمار ذلك في العصا.

وفي الجملة فتصور الإنسان -بل والحيوان- لما ينفعه ويضره هو بهذه القوة على موجب اصطلاحهم، فإن الإنسان إذا رأى بئرا محفورة يتصور أنه إن وقع فيها عطب -كان هذا بهذه القوة، لأن الحس إنما شهد مكانا عميقا، أما كونه يضر الإنسان إذا سقط فيه، فهذا لا يعلم بالحس، ولهذا كان من لا تمييز له يسقط في مثل هذا المكان، كالصبي والمجنون والبهيمة، وإن كان له حس، فالذي يسميه الناس عقلا سماه هؤلاء وهما، وتصور الإنسان أن هذا ماله وهذا مال غيره، وهذه الدار داره وهذه دار غيره، هو بهذه القوة؛ لأن الحس الظاهر لا يميز بين هذا وهذا، وإنما يعرف هذا من هذا بقوة باطنة تتصور في المحسوس ما ليس بمحسوس، وهو أن هذه الدار أو المال له أو لأقاربه أو لأصدقائه، وتلك الدار أو المال للأجانب أو الأعداء، فإن هذه المعاني هي في المحسوس وليست محسوسة، وإدراك كون هذا الإنسان [ ص: 54 ] عادلا جوادا رحيما شجاعا، وهذا ظالما بخيلا قاسيا جبانا، هو على موجب اصطلاحهم وهم، فإن هذا إدراك أمور غير محسوسة في المحسوسات.

التالي السابق


الخدمات العلمية