الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال: "وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك. والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها هو أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية".

قال: "ونحن نقول: إن هذا كله غير لازم، فإن الجهة غير المكان. وذلك أن الجهة هي: إما سطوح الجسم نفسه المحيطة به، وهي ستة، وبهذا نقول: إن للحيوان فوقا وسفلا، ويمينا وشمالا، وأماما وخلفا، وإما سطوح جسم آخر تحيط بالجسم من الجهات الست. فأما الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم نفسه أصلا. وأما سطوح الجسم المحيطة به فهي له مكان، مثل سطوح الهواء المحيطة بالإنسان، وسطوح الفلك المحيطة بسطوح الهواء هي أيضا مكان للهواء. وهذه الأفلاك بعضها محيط ببعض ومكان له، وأما سطح الفلك الخارج فقد تبرهن أنه ليس خارجه جسم، [ ص: 215 ] لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون خارج ذلك الجسم أيضا جسم آخر، ويمر الأمر إلى غير نهاية. فإذا سطح آخر أجسام العالم ليس مكانا أصلا، إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسم، فإذا إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير الجسم، فالذي يمتنع وجوده هنالك هو عكس ما ظنه القوم، وهو موجود هو جسم، لا موجود ليس بجسم. وليس لهم أن يقولوا: إن خارج العالم خلاء. وذلك أن الخلاء قد تبين في العلوم النظرية امتناعه، لأن ما يدل عليه اسم الخلاء ليس هو شيئا أكثر من أبعاد ليس فيها جسم، أعني طولا وعرضا وعمقا، لأنه إن وقعت الأبعاد عنه عاد عدما، وإن أنزل الخلاء موجودا لزم أن تكون أعراض موجودة في غير جسم. وذلك لأن الأبعاد هي أعراض من باب الكمية ولا بد، ولكنه قد قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة إن ذلك الموضع هو مسكن الروحانيين، يريدون الله والملائكة.

وذلك أن ذلك الموضع ليس بمكان ولا يحويه زمان، وكذلك إن كان كل ما يحويه الزمان والمكان فاسدا، فقد يلزم أن يكون ما هنالك غير فاسد ولا كائن، [ ص: 216 ] وقد تبين هذا المعنى فيما أقوله، وذلك أنه لما لم يكن ها هنا شيء يدرك إلا هذا الموجود المحسوس أو العدم، وكان من المعروف بنفسه أن الموجود إنما ينسب إلى الوجود، أعني أنه يقال: إنه موجود في الوجود، إذ لا يمكن أن يقال: إنه موجود في العدم، فإن كان ها هنا موجود هو أشرف الموجودات، فواجب أن ينسب من الوجود المحسوس إلى الجزء الأشرف، وهي السماوات. ولشرف هذا الجزء، قال الله تعالى: لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [سورة غافر: 57].

قال: "فهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم.

فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه، فإن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع، وأنه وجه العسر في تفهيم هذا المعنى مع نفي الجسمية، هو [ ص: 217 ] أنه ليس في الشاهد مثال له، وهو بعينه السبب في أنه لم يصرح الشرع بنفي الجسم عن الخالق سبحانه، لأن الجمهور إنما يقع لهم التصديق بحكم الغائب، متى كان ذلك معلوم الوجود في الشاهد، مثل العلم في الفاعل، فإنه لما كان في الشاهد شرطا في وجوده كان شرطا في وجود الصانع الغائب، وأما متى كان الحكم الذي في الغائب غير معلوم الوجود في الشاهد عند الأكثر، ولا يعلمه إلا العلماء الراسخون، فإن الشرع يزجر عن طلب معرفته، إن لم تكن بالجمهور حاجة إلى معرفته، مثل العلم بالنفس، أو يضرب له مثال في الشاهد.

فإن بالجمهور حاجة إلى معرفته في سعادتهم، وإن لم يكن ذلك المثال هو الأمر المقصود فتفهيمه مثل كثير مما جاء من أحوال المعاد.

التالي السابق


الخدمات العلمية