الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه الرابع: أن يقال: "إذا كان لفظ: التحيز، والانقسام، [ ص: 297 ] والجزء، والافتقار، والغير ألفاظا مجملة، فلفظ "المتحيز" يراد به ما حازه غيره من الموجودات، وليس مرادهم بهذا. ويراد به ما كان منحازا عن غيره، أو ما كان بحيث يشار إليه وإن لم يكن معه موجود سواه، وهذا مرادهم بلفظ "المتحيز"، ولهذا يقولون: العالم متحيز.

ولفظ "الانقسام" يراد به الانقسام المعروف الذي يتضمن تفريق الأجزاء، وليس هذا مرادهم، ويراد به ما يتميز منه شيء عن شيء أو جانب عن جانب، وهذا مرادهم.

ولفظ "الجزء" يراد به ما كان منفردا فانضم إليه غيره، أو ما أمكن التفريق بينه وبين غيره، وليس هذا مرادهم. ويراد به ما حصل الامتياز بينه وبين غيره، وهذا مرادهم.

ولفظ "الافتقار" يراد به أن يكون الشيء مفتقرا إلى فاعل يفعله، وليس هذا مرادهم هنا، ويراد به أن يكون ملازما لغيره فلا يوجد أحدهما إلا مع الآخر، وهذا مرادهم. وقد يقال: إنه يراد به كون الشيء مفتقرا إلى أمر منفصل عنه، وليس هذا مرادهم هنا، ويراد به أن يكون الشيء لا يتم إلا بما يدخل فيه، مما يقال: إنه جزء كالصفة، وهذا مرادهم هنا.

وإذا عرف ذلك كان مضمون كلامهم أنه لو كان مشارا إليه للزم أن لا يوجد إلا بلوازمه التي لا يوجد إلا بها، الداخلة في مسمى اسمه.

ومعلوم أن ما كان كذلك لم يمتنع أن يكون واجب الوجود بنفسه المستلزمة لهذه اللازمات، والمتصفة بهذه الصفات، بل إذا كانت حقيقته متصفة بصفات الكمال الوجودية، كانت أحق بالوجود من أن لا يوصف إلا بأمور سلبية، يستلزم أن تكون ممتنعة الوجود، مشبهة [ ص: 298 ] بالمعدومات والجمادات، فما لا يتصف بشيء من صفات الكمال، فلا تكون له حياة، ولا علم، ولا قدرة، ولا كلام، ولا فعل، ولا عظمة، ولا رحمة، بل يكون موجودا مطلقا أو مجردا -كان ممتنع الوجود، لا واجب الوجود. وما لا يكون إلا كاملا، لا يكون إلا بكماله، وما يجب أن يكون حيا عليما قديرا، لا يكون إلا بحياته وقدرته وعلمه، وليس لزوم صفات الكمال له واستلزامه إياها، موجبا لكونه لا يكون موجودا بنفسه.

وتسمية المسمى هذا جزءا وبعضا ونحو ذلك، غايته أن يقال: لا يمكن وجود الكل إلا بوجود بعضه، ومن المعلوم أن وجود الكل لا يوجد إلا بوجود الكل، فيكون الكل موجودا بالكل، ولا يتضمن ذلك افتقارا له إلى غيره، فإذا كان قول القائل: إنه مفتقر إلى نفسه أو كله لا يقدح في وجوب وجوده، فقوله: هو مفتقر إلى صفته أو بعضه أولى أن لا يقدح في وجوب وجوده.

ومما يبين ذلك أن هؤلاء المتفلسفة يقولون: إن وجوده مستلزم لوجود المعلولات الممكنات، فلا يتصور وجوده بدون وجودات ممكنة معلولة منفصلة عنه، وذلك لا يقدح عندهم في وجوب وجوده بنفسه، فكيف يقدح في وجوب وجوده كونه مستلزما لصفات كمال لازمة له قائمة بنفسه؟ فإن كان استلزامه لغيره افتقارا إليه، فافتقاره إلى معلوله [ ص: 299 ] المنفصل أعظم امتناعا، وإن لم يكن افتقارا إلى اللازم لم يكن استلزامه الصفات افتقارا إليها.

ومثل هذا التناقض كثير في كلام المخالفين للسنة، تحقيقا لقوله تعالى: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [سورة النساء: 82].

التالي السابق


الخدمات العلمية