الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومما يبين هذا أن الصفات السلبية ليس فيها بنفسها مدح ولا توجب [ ص: 177 ] كمالا للموصوف، إلا أن تتضمن أمرا وجوديا، كوصفه سبحانه بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم، فإنه يتضمن كمال حياته وقيوميته.

وكذلك قال تعالى: وما مسنا من لغوب [سورة ق: 38]، متضمن كمال قدرته.

وقوله: لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض [سورة سبأ: 3] يقتضي كمال علمه.

وكذلك قوله: لا تدركه الأبصار [سورة الأنعام: 103] يقتضي عظمته، بحيث لا تحيط به الأبصار.

وكذلك نفي المثل والكفو عنه يقتضي أن كل ما سواه فإنه عبد مملوك له، وذلك يقتضي من كماله ما لا يحصل إذا كان له نظير مستغن عنه، مشارك له في الصنع، فإن ذلك نقص في الصانع، فأما العدم المحض والنفي الصرف، مثل كونه لا يمكن رؤيته بحال، وكونه لا مباينا للعالم ولا مداخلا له، فإن هذا أمر يوصف به المعدوم، فإن المعدوم لا يمكن رؤيته بحال، وليس هو مباينا للعالم ولا مداخلا له، والمعدوم المحض لا يتصف بصفة كمال ولا مدح، ولهذا كان تنزيهه الله تعالى بقوله: "سبحان الله" يتضمن، مع نفي صفات النقص عنه، إثبات ما يلزم ذلك من عظمته، فكان في التسبيح تعظيم، له مع تبرئته من السوء.

ولهذا جاء التسبيح عند العجائب الدالة على عظمته، كقوله تعالى: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا [سورة الإسراء: 1]، وأمثال ذلك.

ولما قال: سبحان ربك رب العزة عما يصفون [سورة الصافات: 180]، [ ص: 178 ] كان تنزيهه عما وصفوه به متضمنا لعظمته اللازمة لذلك النفي.

وإذا كان كذلك، فنفاة النقيضين، وما هو في معنى النقيضين، لم يتضمن وصفهم له بذلك شيئا من الإثبات ولا التعظيم، بخلاف القائلين بالحلول في جميع الأمكنة، فإنهم يصفونه بما فيه تعظيم له.

ولهذا من يقول من يعذر الطائفتين: إن هؤلاء قصدوا تنزيهه، وهؤلاء قصدوا تعظيمه، فإذا كان التنزيه، إن لم يتضمن تعظيما لم يكن مدحا، كان من وصفه بما فيه تعظيم أقرب إلى المعقول ممن وصفه بما يشركه فيه المعدوم، من غير أن يكون فيه تعظيم، فلم يكن أولئك النفاة أن يبطلوا حجج هؤلاء المعظمين له، وإذا ردوا عليهم ببيان ما في قولهم من إثبات ما لا يعقل أو التناقض، قالوا لهم: إن في قولهم من إثبات ما لا يعقل ومن التناقض ما هو أعظم من ذلك.

فإن قال النفاة: هؤلاء الحلولية قد أثبتوا حلولا يقتضي افتقاره إلى المحل، كالصورة مع المادة، وكالوجود مع الثبوت، ونحو ذلك مما يقتضي أن أحدهما محتاج إلى الآخر، نحن قد بينا: إنما يعقل الحلول إذا كان الحال محتاجا إلى المحل، وذلك باطل، لأن ذلك يناقض وجوبه كما تقدم، فقد أبطلنا قول هؤلاء.

قيل: عن هذا جوابان:

أحدهما: أنه ليس كل من قال بالحلول يقول بافتقاره إلى المحل، بل كثير من القائلين بالحلول يقولون: إنه في كل مكان مع استغنائه عن [ ص: 179 ] المحل، وهو قول النجارية وكثير من الجهمية، وقول من يقول بالحلول الخاص كالنصارى وغيرهم.

الثاني: أنه بتقدير أن يكون الحلول مستلزما للافتقار، فأنتم لم تثبتوا غناه عما سواه، فإن طريقة الرازي والآمدي وأمثالهما في إثبات الصانع، هي طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود، وهذه الطريقة لا تدل على إثبات موجود قائم بنفسه واجب الوجود.

وإن قيل: إنها تدل على ذلك، فلم تدل على أنه مغاير للعالم، بل يجوز أن يكون هو العالم.

ومن طريقهم قال هؤلاء بوحدة الوجود، فإن طريقتهم المشهورة: أن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن، الممكن لا بد له من واجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين.

وهذا القدر يدل على أنه لا بد من وجود واجب، ومن قال: كل موجود واجب فقد وفى بموجب هذه الحجة، ومن قال: إن الوجود الواجب مع الممكن كالصورة مع المادة، أو كالوجود مع الثبوت، فقد وفى بموجب هذه الحجة، بل لا يمكنهم إثبات لوجود واجب مغاير للممكن إن لم يثبتوا أن في الوجود ما هو ممكن يقبل الوجود والعدم.

وهم يدعون أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم قد يكون قديما أزليا، ولا يمكنهم إقامة دليل على ثبوت الإمكان بهذا الاعتبار.

ولهذا لما احتاجوا إلى إثبات الإمكان استدلوا بأن الحادث لا بد له من محدث، وأن الحوادث مشهودة.

[ ص: 180 ] وهذا حق، لكنه يدل على أن المحدث لا بد له من قديم، فيلزم ثبوت قديم، لكن لا يلزم من ذلك عندهم أن يكون واجب الوجود ثابتا إلا بذلك التقسيم، إذ كانوا يجوزون على القديم أن يكون ممكن الوجود، فإذا قالوا: القديم إن كان ممكنا فلا بد له من واجب، لم يمكنهم إثبات واجب إلا بإثبات هذا الممكن، وهذا ممتنع، وهو أيضا مستلزم للدور، فإنه لا يمكنهم إثبات واجب الوجود إلا بإثبات ممكن الوجود، ولا يمكن إثبات ممكن الوجود إلا بإثبات أن المحدث ممكن وله فاعل، وذلك لا يستلزم إلا إثبات قديم، والقديم عندهم لا يجب أن يكون واجب الوجود، فلا يمكنهم أن يثبتوا واجب الوجود حتى يثبتوا ممكن الوجود، والذي قد يكون قديما، وهذا لا يمكن إثباته إلا بإثبات الممكن الذي هو حادث، وهذا لا يدل إلا على إثبات قديم، والقديم عندهم لا يستلزم أن يكون واجب الوجود.

وأيضا فإذا أثبتوا واجب الوجود فإنهم لم يثبتوا أنه مغاير لهذه المشهودات إلا بطريقة التركيب، وهي باطلة.

وحينئذ فيمكن أن يقول لهم أهل الحلول: الواجب هو حال.

وإيضاح ذلك أنهم قسموا الوجود إلى واجب وممكن، لكن جعلوا الممكن منه ما هو قديم ومنه ما هو محدث، وحينئذ فلا يمكن إثبات الواجب إلا بإثبات هذا الممكن، وهذا الممكن لا يمكن إثباته.

وأيضا فهم لا يثبتون الممكن إلا بإثبات الحادث، والحادث لا بد له من القديم، والقديم لا يستلزم أن يكون واجبا.

التالي السابق


الخدمات العلمية