الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الوجه الخامس فقوله: "إن البديهية حاكمة بأن كل موجودين فإما أن يكون أحدهما ساريا عنه، أو مباينا عنه في الجهة، أو لا ساريا ولا مباينا، ثم إنا نجد العقل متوقفا عن القسم الثالث، إلا لبرهان يثبته أو

فجوابه من وجوه:

أحدها: أن يقال: مجرد تقدير الذهن للأقسام لا يدل على إمكانها في الخارج، فإنه يقدر أن الشيء: إما موجود، وإما معدوم، وإما لا موجود ولا معدوم، وأن الموجود: إما أن يكون واجبا، وإما أن يكون ممكنا، وإما أن يكون لا واجبا ولا ممكنا، وأنه: إما قديم وإما محدث، وإما قائم بنفسه أو بغيره، أو لا قائم بنفسه ولا بغيره، وأمثال ذلك من التقديرات، ثم لم يكن هذا دليلا على إمكان كل هذه الأقسام في الخارج.

[ ص: 284 ] فكذلك تقديره لأن الشيء: إما محايث، وإما مباين، وإما غير محايث ولا مباين، لا يدل على إمكان كل من الأقسام في الخارج.

الثاني: أن يقال: القوم لا يقولون: إما ساري وإما مباين، ولكن يقولون: إما أن يكون مباينا له، وإما أن يكون محايثا له -أي بحيث هو، سواء كان ساريا فيه سريان الصفة في الموصوف، وإما أن يكونا جميعا ساريين في موصوف واحد، كالحياة والقدرة القائمة لموصوف واحد.

وحينئذ فلا يسلم توقف العقل عن نفي القسم الثالث، فإن من يقول: أنا أعلم بالضرورة أن الموجودين: إما أن يكونا متباينين، وإما أن يكونا متحايثين، يجزم بانتفاء موجود لا يكون مباينا للموجود الآخر ولا محايثا له.

الوجه الثالث: أن يقال: القسم الثالث: إما أن يقول: إنه ممكن إمكانا ذهنيا أو خارجيا، والإمكان الذهني معناه عدم العلم بالامتناع، والثاني معناه العلم بالإمكان في الخارج.

وهو قد فسر مراده بالأول، وهو عدم العلم حتى يقوم دليل. وحينئذ فيقال: مجرد الإمكان الذهني -وهو عدم العلم بالامتناع- لا يدل على الإمكان الخارجي ولا العلم به، وإنما غايته أن يقول: إني لا أعرف إمكانه ولا امتناعه. والمدعي يقول: أنا أعلم امتناعه بالضرورة، وقد ذكرنا أنهم طوائف متفرقون اتفقوا على ذلك من غير مواطأة، وذلك يقتضي أنهم صادقون فيما يخبرون به عن فطرهم.

[ ص: 285 ] ومعلوم أن العلوم الضرورية لا يقدح فيها نفي النافي لها، فكيف يقدح فيها شك الشاك فيه؟!

والجواب الرابع: أن يقال: لا نسلم توقف العقل بعد التصور التام، بل لا يتوقف إلا لعدم التصور، أو لوجود ما يمنع من الحكم، لظن أو هوى، كسائر المنازعين في القضايا الضرورية من أهل الجحود والتكذيب.

ومعلوم أن هؤلاء كثيرون في بني آدم، فإن الله قد أخبر عن قوم فرعون أنهم جحدوا بآياته واستيقنتها أنفسهم.

وقال تعالى عن اليهود: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون [سورة البقرة: 146]. وقال تعالى: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون [سورة البقرة: 75].

وقال عن المشركين: فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون [سورة الأنعام: 33]، وقال موسى لفرعون: لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر [سورة الإسراء: 102].

وقد أخبر عن كذب طوائف، وإذا كان كثير من الطوائف يتعمدون الكذب والتكذيب بما يعلمون أنه حق، وهذا جحد لما علموه وتيقنوه، علم أن في الطوائف من قد يتفقون على جحد ما يعلمونه، وكل طائفة [ ص: 286 ] جاز عليها المواطأة على الكذب، جاز عليها ذلك، ويجوز أيضا أن يشتبه عليها الحق بالباطل، حتى تجحد ما هو حق في نفسه لاشتباهه عليها، وإن كان معلوما بالضرورة عند غيرها، فإنه إذا جاز تعمد الكذب عليهم، فجواز الخطأ عليهم أولى.

ومعلوم أن الحس قد يغلط، والعقل قد يغلط، فيجوز على الطائفة المعينة غلط حسهم أو عقلهم، وإذا كانت المعاني دقيقة، وفيها ألفاظ مجملة، وقد ألقى بعضهم إلى بعض أن هذا القول باطل وكفر، أمكن أن لا يتصوروه على وجهه، وإن كان غيرهم يتصوره لسلامته من الهوى ومن الاعتقاد المانع من ذلك.

التالي السابق


الخدمات العلمية