الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد قررت هذا على وجه آخر بأن يقال: فإن قيل: المحيط لا يتميز منه جانب دون جانب بكونه فوقا وسفلا، فلا يمكن إذا قدر شيء [ ص: 338 ] خارجا عنه أن يقال: هو فوقه إلا كما يقال: هو سفله، وحينئذ ففرض شيء خارج عن المدور المحيط مع كونه فوقه، جمع بين الضدين.

قيل: الجواب عن هذا من وجوه:


أحدها: أن هذا الكلام إن كان صحيحا لزم بطلان حجتكم، وإن لم يكن صحيحا لزم بطلانها، فثبت بطلانها على تقدير النقيضين، فيلزم بطلانها في نفس الأمر، لأن الحق في نفس الأمر لا يخلو عن النقيضين.

بيان ذلك أن المحيط إما أن يصح أن يقال: إن بعضه عال وبعضه سافل، وإما أن لا يصح، فإن لم يصح بطل أن يكون الخارج عنه تحت شيء من العالم، بل إذا قدر أنه يحيط به، ولو بقبضته له، لزم أن يكون عاليا عليه مطلقا، ولم يكن سافلا تحت شيء من العالم، وإن صح أن يكون بعضه عاليا وبعضه سافلا، أمكن أن يكون مباينا للعالم من الجهة العالية، فيكون عاليا عليه.

وإن قيل: بل المحيط إذا حاذى رؤوسنا كان عاليا، وإذا حاذى أرجلنا كان سافلا، فلا يزال بعضه عاليا، وبعضه سافلا.

قيل: فعلى هذا التقدير يكون العالي ما كان فوق رؤوسنا، وحينئذ فإذا كان مباينا للعالم من جهة رؤوسنا دون أرجلنا، لم يزل عاليا علينا دائما، وهو المطلوب.

الوجه الثاني: أن يقال: هب أنه محيط بالعالم وفوقه من [ ص: 339 ] جميع الجهات، فإنما يلزم ما ذكرت أن لو كان من جنس فلك من الأفلاك، فإن المتخيل قد يتوهم أن ما استدار وأحاط بالأفلاك، كان تحت بعض العالم من بعض الجهات.

ومن المعلوم أن الله تعالى ليس مثل فلك من الأفلاك، ولا يلزم إذا كان فوق العالم ومحيطا به أن يكون مثل فلك، فإنه العظيم الذي لا أعظم منه.

وقد قال تعالى: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه [سورة الزمر: 67].

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه ما يوافق ذلك، مثل حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟" وفي رواية: " إنها تكون بيده مثل الكرة في يد الصبيان". وروي ما هو أقل من ذلك.

والمقصود أنه إذا كان الله أعظم وأكبر وأجل من أن يقدر العباد قدره، أو تدركه أبصارهم، أو يحيطون به علما، وأمكن أن تكون السماوات والأرض في قبضته لم يجب -والحال هذه- أن يكون تحت العالم، أو تحت شيء منه، فإن الواحد من الآدميين إذا قبض قبضة أو بندقة أو حمصة أو حبة خردل، وأحاط بها بغير ذلك، لم يجز أن يقال: إن أحد جانبيها فوقه، لكون يده لما أحاطت بها كان منها [ ص: 340 ] الجانب الأسفل يلي يده من جهة سفلها، ولو قدر من جعلها فوق بعضه بهذا الاعتبار، لم يكن هذا صفة نقص بل صفة كمال.

وكذلك أمثال ذلك من إحاطة المخلوق ببعض المخلوقات، كإحاطة الإنسان بما في جوفه، وإحاطة البيت بما فيه، وإحاطة السماء بما فيها من الشمس والقمر والكواكب، فإذا كانت هذه المحيطات لا يجوز أن يقال: إنها تحت المحاط، وأن ذلك نقص، مع كون المحيط يحيط به غيره، فالعلي الأعلى المحيط بكل شيء، الذي تكون الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، كيف يجب أن يكون تحت شيء مما هو عال عليه أو محيط به، ويكون ذلك نقصا ممتنعا؟!

وقد ذكر أن بعض المشايخ سئل عن تقريب ذلك إلى العقل، فقال للسائل: إذا كان باشق كبير، وقد أمسك برجله حمصة أليس يكون ممسكا لها في حال طيرانه، وهو فوقها ومحيط بها؟ فإذا كان مثل هذا ممكنا في المخلوق، فكيف يتعذر في الخالق؟

التالي السابق


الخدمات العلمية