الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الجواب الثاني: أنه يقال له: ما تعني بقولك: إن كل مشار إليه فإما أن ينقسم أو لا ينقسم؟ أتعني بالانقسام إمكان تفريقه وتجزئته وتبعضه؟ أم تعني به أن كل مشار إليه إذا لم يكن بقدر الجوهر الفرد فإنه يكون مركبا من الجواهر المنفردة؟ أو تعني به أنه يشار إلى شيء منه دون شيء، ويرى منه شيء دون شيء، ويتميز منه شيء عن شيء؟

فإن أردت الأول بطل لازم التقدير الأول، فإنه لا يلزم من كونه لا يمكن تفريقه وتبعيضه وتقسيمه أن يكون صغيرا بقدر الجوهر الفرد، فإنا نعلم بالاضطرار إمكان كون الشيء كبيرا عظيما مع أنه لا يمكن تفريقه وتبعيضه وتقسيمه. بل قد تنازع الناس في كثير من المخلوقات: هل تقبل التفريق أو لا تقبله؟ ومن قال: إنها تقبله أثبته بالدليل، لم يقل: إنه معلوم بالضرورة.

وإن أردت أن كل مشار إليه فإنه يكون مركبا من الجواهر المفردة إذا لم يكن حقيرا منعت هذا، وقيل لك: هذا مبني على أن الأعيان المشهودة مركبة من الجواهر المنفردة. وأكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم ينكرون ذلك، بل أكثر طوائف أهل الكلام تنكر ذلك، كالهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وكثير من الكرامية وغير هؤلاء.

[ ص: 293 ] وكذلك إن عنى به أنه مركب من المادة والصورة، كما يقوله بعض الفلاسفة، فأكثر العقلاء ينكرون ذلك. والصواب قول من ينكر ذلك، كما هو مذكور في غير هذا الموضع، وبتقدير تسليمه ينازع من سلمه في صحة المقدمة الثانية ويمنع صحة انتفاء اللازم.

وإن أردت به المعنى الثالث: وهو أنه يتميز منه شيء عن شيء.

فيقال لك: هذا القول لازم لجميع الخلائق. أما الصفاتية فإنهم يثبتون العلم، والقدرة، والإرادة، والكلام. ومن المعلوم أن هذه معاني متميزة في أنفسها، ليس كل واحد منها هو الآخر. وأما غيرهم فيعلمون الفرق بين كونه عالما، وكونه قادرا، وكونه حيا، ونحو ذلك.

والمتفلسفة يعلمون الفرق بين كونه موجودا، وكونه واجبا، وكونه عاقلا وعقلا، وعاشقا وعشقا، ولذيذا وملتذا، ونحو ذلك. ففي الجملة لزوم مثل هذه المعاني المتعددة المتكثرة لازم لجميع الخلائق، وهذه مسألة الصفات.

فإذا قال النفاة: عندنا العلم هو الإرادة، والإرادة هي القدرة، والوجوب هو الوجود، ونحو ذلك.

كان لهم جوابان: أحدهما أن يقال: هذا معلوم الفساد بالضرورة، كما تقدم. ولا يرتاب عاقل في فساد مثل هذا بعد تصوره.

والثاني أن يقال: إذا جاز لكم أن تثبتوا معاني متعددة ومتغايرة في الأحكام واللوازم والأسماء ليس التغاير بينها تغاير العموم والخصوص، كاللون والسواد، وتقولون: إنه لا تعدد فيها ولا كثرة ولا انقسام، جاز [ ص: 294 ] لمنازعكم أن يثبت ذاتا فوق العالم لا انقسام فيها ولا تركيب، وكان هذا أقرب إلى العقل.

فإن جاز أن تقولوا: لا يتميز العلم عن القدرة، ولا الإرادة عن الحياة، جاز أن يقول: لا يتميز ما يحاذي يمين العرش عما يحاذي يسار العرش.

ومن المعلوم أن التعدد في الصفات أظهر من التعدد في المقدر، فإن كان ذلك مقبولا كان هذا أولى بالقبول، وإن كان هذا مردودا كان ذلك أولى بالرد، ولا يمكن أحد من العقلاء أن يرد ما يثبت أنه من المعاني المتعددة المعلومة بصريح العقل، ومع نطق الشرع بذلك في غير موضع، فإن الله تعالى أثبت لنفسه من الأسماء الحسنى التي تتعدد معانيها: كالعليم، والقدير، والرحيم، والعزيز، وغير ذلك، وأثبت له من الكلمات التي لا تعادلها، ما شهد به الكتاب العزيز، فقد أثبت تعدد أسمائه وكلماته، وفي ضمن ذلك تعدد صفاته، وهو الواحد المسمى بأسمائه الحسنى، المنعوت بصفات العلى، الصادق العدل في كلماته التامات صدقا وعدلا، وإذا كانت هذه الحجة مبنية على نفي الصفات، فقد علم فساد أصلها.

التالي السابق


الخدمات العلمية