الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد تدبرت عامة ما يحتج به أهل الباطل على من هو أقرب إلى الحق منهم، فوجدته إنما تكون حجة الباطل قوية لما تركوه من الحق الذي [ ص: 211 ] أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه، فيكون ما تركوه من ذلك الحق من أعظم حجة المبطل عليهم، ووجدت كثيرا من أهل الكلام الذين هم أقرب إلى الحق ممن يردون عليه، يوافقون خصومهم تارة على الباطل، ويخالفونهم في الحق أخرى، ويستطيلون عليهم بما وافقوهم عليه من الباطل، وبما خالفوهم فيه من الحق، كما يوافق المتكلمة النفاة للصفات -أو لبعضها كالعلو وغيره- لمن نفى ذلك من المتفلسفة، وينازعونهم في مثل بقاء الأعراض، أو مثل تركيب الأجسام من الجواهر المنفردة، أو وجوب تناهي جنس الحوادث، ونحو ذلك.

والمقصود هنا أن ابن رشد نقل عن الفلاسفة إثبات الجهة، وقرر ذلك بطرقهم العقلية التي يسمونها البراهين، مع أنه يزعم أنه لا يرتضي طرق أهل الكلام، بل يسميها هو وأمثاله من الفلاسفة الطرق الجدلية، ويسمون المتكلمين أهل الجدل، كما يسميهم بذلك ابن سينا وأمثاله، فإنهم لما قسموا أنواع القياس العقلي الشمولي الذي ذكروه في المنطق إلى: برهاني، وخطابي، وجدلي، وشعري، وسوفسطائي، زعموا أن مقاييسهم في العلم الإلهي من النوع البرهاني، وأن غالب مقاييس المتكلمين إما من الجدلي وإما من الخطابي، كما يوجد هذا في كلام هؤلاء المتفلسفة، كالفارابي، وابن سينا، ومحمد بن يوسف العامري، [ ص: 212 ] ومبشر بن فاتك، وأبي علي بن الهيثم، والسهروردي المقتول، وابن رشد، وأمثالهم، وإن كانوا في هذه الدعاوى ليسوا صادقين على الإطلاق، بل الأقيسة البرهانية في العلم الإلهي في كلام المتكلمين أكثر منها في كلامهم وأشرف، وإن كان قد يوجد في كلام المتكلمين أقيسة جدلية وخطابية، بل وسوفسطائية، فهذه الأنواع في العلم الإلهي هي في كلام الفلاسفة أكثر منها في كلام المتكلمين وأضعف، إذا قوبل ما تكلموا فيه من العلم الإلهي، بما تكلم فيه المتكلمون، بل ويستعملون من هذا الضرب في الطبيعيات، بل وفي الرياضيات قطعة كبيرة.

التالي السابق


الخدمات العلمية