الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه الرابع: قول بعض هؤلاء النفاة لبعض: لم قلتم: "إن عدم تناهيه: إن كان من جميع الجوانب فإنه مخالط للعالم وما فيه من القاذورات تعالى عنه" ولم لا يجوز أن يكون غير متناه من جميع الجوانب وهو غير مخالط؟ فإن قالوا: لأن فرض مشار إليه، غير متناه، لا يخالط العالم -ممتنع في صريح العقل.

قيل: وفرض موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون مباينا لغيره، ممتنع في صريح العقل.

[ ص: 303 ] فإن قلتم: هذا في حكم الوهم.

قالوا: وإثبات المخالطة لما لا نهاية له من حكم الوهم.

وهؤلاء النفاة لمباينته للعالم، منهم من يقول: "إنه جسم، وهو في كل مكان، وفاضل في جميع الأماكن، وهو مع ذلك متناه، غير أن مساحته أكبر من مساحة العالم، لأنه أكبر من كل شيء.

وقال بعضهم: مساحته على قدر مساحة العالم.

وقال بعضهم: هو جسم له مقدار في المساحة، ولا ندري كم ذلك القدر".

"ومنهم من يقول: إنه جسم تحل الأشياء فيه، وهو الفضاء، وليس بذي غاية ولا نهاية. وقال بعضهم: هو الفضاء، وليس بجسم، والأشياء قائمة به". "وقال بعضهم: ليس لمساحة البارئ [ ص: 304 ] نهاية ولا غاية، وإنه ذاهب في الجهات الست، اليمين، والشمال، والأمام، والخلف، والفوق، والتحت، قالوا: وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسم، ولا طويل، ولا عريض، ولا عميق، وليس بذي حدود، ولا هيئة ولا قطب".

حكى هذه الأقوال الأشعري في "المقالات" وحكى عن زهير الأثري أنه كان يقول: "إن الله بكل مكان، وإنه مع ذلك مستو على عرشه، وأنه يرى بالأبصار بلا كيف، وأنه موجود الذات بكل مكان، وأنه ليس بجسم ولا محدود، ولا يجوز عليه الحلول والمماسة، ويزعم أنه يجيء يوم القيامة، كما قال تعالى: وجاء ربك والملك صفا صفا [سورة الفجر: 22]، بلا كيف". وكذلك أبو معاذ التومني.

وهذا القول الذي حكاه الأشعري عن هؤلاء يشبه قول كثير من الصوفية والسالمية، كأبي طالب المكي وغيره.

فهؤلاء القائلون بأنه بذاته في كل مكان على أقوال: منهم من يقول: له قدر، ومنهم من يقول: ليس له غاية ولا نهاية، ومنهم من يقول: هو جسم، ومنهم من يقول: ليس بجسم. ثم من هؤلاء من [ ص: 305 ] يقول: إنه غير متناه من جميع الجوانب، وهو مع ذلك لا يخالط الأشياء، وأيضا فإنهم إذا قالوا: إنه يخالط الأشياء، قالوا: هذا لا يقدح في كماله، كما أن الشعاع لا يقدح فيه أنه فوق الأقذار.

وقول هؤلاء، وإن كان باطلا، كما قد بين في غير هذا الموضع، فالمقصود أن النفاة الذين يقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، لا يمكنهم إبطال قول هؤلاء. بل قد يقول القائل: إن قول هؤلاء الحلولية خير من قول أولئك المعطلة، الذين يقولون: لا داخل العالم ولا خارجه.

ولهذا قال من قال: "متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شيء".

ومنهم من يقول هذا تارة وهذا تارة. ومنهم من يقول: هذا اعتقادي، وهذا ذوقي ووجدي.

وإنما يتمكن من إبطال قول هؤلاء كلهم أهل السنة المثبتة، الذين يقولون: إنه مباين للعالم، فأما بعض هذه الطوائف مع بعضهم فإنهم متناقضون.

فإذا قالوا: لا نسلم أنه يجب أن يخالط العالم، أو لا نسلم أن في ذلك محذورا، بل يمكن عدم المخالطة، أو المخالطة، بلا نقص ولا عيب -كان قول هؤلاء من جنس أقوال أولئك، فإنهم أثبتوا ما يحيله العقل.

فإذا قالوا لأولئك: هذا من حكم الوهم لا من حكم العقل، كان [ ص: 306 ] هذا بمنزلة قول أولئك: إن إحالة موجود لا داخل العالم ولا خارجه من حكم الوهم، فإنهم قد قالوا: إنه حكم في غير المحسوس بحكم المحسوس، فإن لم يكن في الوجود ما لا يمكن الإحساس به بطل قولهم، وإن كان فيه ما لا يمكن الإحساس به، وادعى هؤلاء أنه غير متناه من جميع الجوانب، وهو غير جسم عند بعضهم، وجسم عند آخرين منهم -كان الحكم حينئذ بكونه يكون مخالطا للعالم، وأن ذلك ممتنع عليه، حكما على غير المحسوس بحكم المحسوس، وهم لا يقبلون هذا الحكم.

ثم إن الكلام هنا من جهة من يقول: إنه مشار إليه، ويقول: إنه متناه، وهو مع ذلك جسم، أو ليس بجسم. وإذا قال هؤلاء: كل مشار إليه فهو جسم، كان كقولهم: لو كان فوق العرش لكان مشارا إليه، ولكان جسما، وقد نازعهم في ذلك طوائف.

وتبين أن قول من قال: هو فوق العرش وليس بجسم، ليس هو أبعد عن العقل، من قول من قال: أنه لا داخل العالم ولا خارجه أصلا. فإن هذا أقرب إلى المعدوم من ذلك، وكل ما كان أقرب إلى العدم، كان أبعد عن الوجود الواجب.

فهكذا من قال: يشار إليه وهو غير متناه ولا يخالط، أو يخالط ولا نقص في ذلك -فقوله ليس أبعد عن العقل من قول أولئك؛ بل نظير قولهم أن يقال: إنه في كل مكان بذاته، ولا يشار إليه، ولا نهاية له، كما قال بعضهم.

[ ص: 307 ] فهذه الأقوال حكم ببطلانها حاكم واحد، فإن رد حكمه في بعضها رد في سائرها، فهذا جواب هؤلاء.

التالي السابق


الخدمات العلمية