الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (49) قوله: إنا كل شيء خلقناه : العامة على نصب "كل" على الاشتغال وأبو السمال بالرفع. وقد رجح الناس، بل بعضهم أوجب النصب قال: لأن الرفع يوهم ما لا يجوز على قواعد أهل السنة. وذلك أنه إذا رفع "كل شيء" كان مبتدأ "وخلقناه" صفة لـ "كل" أو لشيء. و "بقدر" خبره. وحينئذ يكون له مفهوم لا يخفى على متأمله، فيلزم أن يكون الشيء الذي ليس مخلوقا لله تعالى لا بقدر، كذا قدره بعضهم. وقال أبو البقاء : "وإنما كان النصب أولى لدلالته على عموم الخلق، والرفع لا يدل على عمومه، بل يفيد أن كل شيء مخلوق فهو بقدر". وقال مكي بن أبي طالب: "كان الاختيار على أصول البصريين رفع "كل" كما أن الاختيار عندهم في قولك: "زيد ضربته" الرفع، والاختيار عند الكوفيين النصب فيه بخلاف قولنا "زيد أكرمته" لأنه قد تقدم في الآية شيء عمل فيما بعده وهو "إن" والاختيار عندهم النصب فيه. وقد أجمع القراء على النصب فـ "كل" على الاختيار فيه عند الكوفيين ليدل ذلك على عموم الأشياء المخلوقات أنها لله تعالى بخلاف ما قاله أهل الزيغ من أن ثم مخلوقات لغير الله تعالى، وإنما دل النصب في "كل" على [ ص: 147 ] العموم; لأن التقدير: إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر، فخلقناه تأكيد وتفسير لـ "خلقنا" المضمر الناصب لـ "كل". وإذا حذفته وأظهرت الأول صار التقدير: إنا خلقناه كل شيء بقدر، فهذا لفظ عام يعم جميع المخلوقات. ولا يجوز أن يكون "خلقناه" صفة لـ "شيء" لأن الصفة والصلة لا يعملان فيما قبل الموصوف ولا الموصول، ولا يكونان تفسيرا لما يعمل فيما قبلهما، فإذا لم يبق "خلقناه" صفة لم يبق إلا أنه تأكيد وتفسير للمضمر الناصب، وذلك يدل على العموم. وأيضا فإن النصب هو الاختيار لأن "إنا" عندهم يطلب الفعل فهو أولى به، فالنصب عندهم في "كل" هو الاختيار، فإذا انضاف إليه معنى العموم والخروج عن الشبه كان النصب أولى من الرفع.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية: "وقوم من أهل السنة بالرفع". وقال أبو الفتح: "هو الوجه في العربية، وقراءتنا بالنصب مع الجماعة". وقال الزمخشري : "كل شيء" منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر. وقرئ "كل شيء" بالرفع. والقدر والقدر: التقدير، وقرئ بهما، أي: خلقنا كل شيء مقدرا محكما مرتبا على حسب ما اقتضته الحكمة أو مقدرا مكتوبا في اللوح، معلوما قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو هنا لم يتعصب للمعتزلة لضعف وجه الرفع.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال قوم: إذا كان الفعل يتوهم فيه الوصف وأن ما بعده يصلح [ ص: 148 ] للخبر، وكان المعنى على أن يكون الفعل هو الخبر اختير النصب في الاسم الأول حتى يتضح أن الفعل ليس بوصف، ومنه هذا الموضع; لأن قراءة الرفع تخيل أن الفعل وصف، وأن الخبر "بقدر". وقد تنازع أهل السنة والقدرية الاستدلال بهذه الآية: فأهل السنة يقولون: كل شيء مخلوق لله تعالى بقدر، ودليلهم قراءة النصب لأنه لا يفسر في هذا التركيب إلا ما يصح أن يكون خبرا لو رفع الأول على الابتداء. وقال القدرية: القراءة برفع "كل" و"خلقناه" في موضع الصفة لـ "كل"، أي: إن أمرنا أو شأننا: كل شيء خلقناه فهو بقدر أو بمقدار، وعلى حد ما في هيئته وزمنه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض العلماء: في القدر هنا وجوه، أحدها: أنه المقدار في ذاته وفي صفاته. والثاني: التقدير كقوله: فقدرنا فنعم القادرون . وقال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      4168 -. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقد قدر الرحمن ما هو قادر



                                                                                                                                                                                                                                      أي: ما هو مقدر. والثالث: القدر الذي يقال مع القضاء كقولك: كان بقضاء الله وقدره فقوله: "بقدر" على قراءة النصب متعلق بالفعل الناصب وفي قراءة الرفع في محل رفع، لأنه خبر لـ "كل" و"كل" وخبرها في محل رفع خبرا لـ إن.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية