الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 126 ] قال ( ومن اشترى عبدا فغاب فأقام البائع البينة أنه باعها إياه ، فإن كانت غيبته معروفة لم يبع في دين البائع ) لأنه يمكن إيصال البائع إلى حقه بدون البيع ، وفيه إبطال حق المشتري ( وإن لم يدر أين هو بيع العبد وأوفى الثمن ) لأن ملك المشتري ظهر بإقراره فيظهر على الوجه الذي أقر به مشغولا بحقه ، [ ص: 127 ] وإذا تعذر استيفاؤه من المشتري يبيعه القاضي فيه كالراهن إذا مات والمشتري إذا مات مفلسا والمبيع لم يقبض ، بخلاف ما بعد القبض ; لأن حقه لم يبق متعلقا به ، ثم إن فضل شيء يمسك للمشتري ; لأنه بدل حقه وإن نقص يتبع هو أيضا . قال ( فإن كان المشتري اثنين فغاب أحدهما فللحاضر أن يدفع الثمن كله ويقبضه ، وإذا حضر الآخر لم يأخذ نصيبه حتى ينقد شريكه الثمن كله وهو قول أبي حنيفة ومحمد . وقال أبو يوسف : إذا دفع الحاضر الثمن كله لم يقبض إلا نصيبه وكان متطوعا بما أدى عن صاحبه )

لأنه قضى دين غيره بغير أمره فلا يرجع عليه وهو أجنبي عن نصيب صاحبه فلا يقبضه . [ ص: 128 ] ولهما أنه مضطر فيه لأنه لا يمكنه الانتفاع بنصيبه إلا بأداء جميع الثمن ; لأن البيع صفقة واحدة ، وله حق الحبس ما بقي شيء منه ، والمضطر يرجع كمعير الرهن ، وإذا كان له أن يرجع عليه كان له حق الحبس عنه إلى أن يستوفي حقه كالوكيل بالشراء إذا قضى الثمن من مال نفسه .

التالي السابق


( قوله ومن اشترى عبدا فغاب ) قبل القبض ونقد الثمن ( فأقام البائع البينة أنه باعه إياه ) ولم يقبض الثمن ( فإن كانت غيبة ) المشتري غيبة ( معروفة لم يبعه ) القاضي ( في دين البائع لأنه يمكن إيصال البائع إلى حقه بدون البيع ) فيكون إبطالا لحق المشتري في العين المبيعة من غير ضرورة ( وإن لم يدر أين هو بيع العبد وأوفى الثمن ) بنصب الثمن مفعولا ثانيا لبيع وقوله وإن لم يدر أين هو يبين أن الغيبة المعروفة أن يعلم أين هو .

وقوله المصنف في تعليل بيع القاضي ( لأن ملك المشتري ظهر بإقراره ) يعني بإقرار البائع ( فيظهر على الوجه الذي أقر به ) وهو كونه ( مشغولا بحقه ) يبين أن البيع من القاضي ليس [ ص: 127 ] بهذه البينة لأنها لا تقام لإثبات الدين على الغائب فما هي إلا لكشف الحال ليجيبه القاضي إلى البيع نظرا للغائب لا ليثبت عليه فإنه لو لم يقمها لم يجبه إلى ذلك ( وإذا تعذر استيفاؤه ) والفرض أنه أحق بمالية هذا العبد لأنه كالرهن في يده إلى استيفاء الثمن ، حتى لو مات المشتري مفلسا كان البائع أحق بماليته من سائر الغرماء كالمرتهن إذا مات الراهن فإنه أحق من سائر الغرماء فيعينه القاضي على بيعه ( بخلاف ما بعد قبض المبيع ; لأن حقه ) أي البائع ( لم يبق معلقا به ) بل هو دين في ذمة المشتري والبينة حينئذ لإثبات الدين ولا يثبت دين على غائب فلا يتمكن القاضي من البيع وقضاء الدين ، وهذا طريق الإمام السرخسي رحمه الله ، وتقرير شيخ الإسلام يشعر بخلافه حيث قال : القياس أن لا تقبل هذه البينة لأنها على إثبات حق على الغائب وليس ثم خصم لا قصدي ولا حكمي ، فهو كمن أقامها على غائب لا يعرف مكانه لا تقبل ، وإن كان لا يصل إلى حقه .

وفي الاستحسان تقبل لأن البائع عجز عن الوصول إلى الثمن وعن الانتفاع بالمبيع واحتاج إلى أن ينفق عليه إلى أن يحضر المشتري وربما تربو النفقة عن الثمن والقاضي ناظر لإحياء حقوق الناس فكان للقاضي أن يقبلها لدفع البلية ، بخلاف ما لو أقامها ليثبت حقا على الغائب لينزع شيئا من يده لا يقبلها ، والإجماع في مثله لدفع البلية عن البائع وليس فيه إزالة يد الغائب عما في يده ; لأن البائع يستوفي حقه مما في يده . وأورد عليه أنه يستلزم بيع المنقول قبل القبض . أجيب بأن من المشايخ من قال ينصب القاضي من يقبضه ثم يبيعه . وقال آخرون : لا يحتاج إلى ذلك لأن هذا البيع يثبت ضمنا ; لأنه غير مقصود بل المقصود النظر للبائع بإحياء حقه والبيع ضمن له . هذا إذا كان المشتري واحدا فغاب ، فلو كان المشتري اثنين فغاب أحدهما قبل إعطاء الثمن فالحاضر لا يملك قبض نصيبه إلا بنقد جميع الثمن بالاتفاق ، فلو نقده اختلفوا في مواضع : الأول هل يجبر البائع على قبول حصة الغائب ؟ عند أبي يوسف لا ، وعند أبي حنيفة ومحمد يجبر . والثاني لو أنه قبل هل يجبر البائع على تسليم نصيب الغائب للحاضر ؟ عند أبي يوسف لا ، بل لا يقبض إلا نصيبه على وجه المهايأة ، وعندهما يجبر . والثاني لو قبض الحاضر العبد هل يرجع على الغائب بما نقده ؟ [ ص: 128 ] عند أبي يوسف لا ، وعندهما يرجع ، وللحاضر حبس نصيب الغائب إذا حضر حتى يعطيه ما نقده عنه .

وجه أبي يوسف أن الحاضر قضى دين الغائب بغير أمره فكان متبرعا فلا يرجع ، وإذا لم يكن له الرجوع لم يكن له قبض حصته ; لأنه أجنبي عنها ( ولهما أنه مضطر فيه ) أي في دفع حصة الغائب لأنه لا يمكنه الانتفاع بملكه إلا بأداء الجميع ، لأن البيع الصادر إليهما من البائع صفقة واحدة والمضطر يرجع وله حق الحبس ، وصار كمعير الرهن إذا أفلس الراهن وهو المستعير أو غاب ، فإن المعير إذا افتكه بدفع الدين رجع على الراهن لأنه مضطر فيه ، وصار كصاحب العلو إذا سقط بسقوط السفل كان له أن يبني السفل إذا لم يبنه مالكه بغير أمره ليتوصل به إلى بناء علوه ثم يرجع عليه ولا يمكنه من دخوله ما لم يعطه ما صرفه ، غير أن في مسألة السفل لا يفترق الحال بين كون صاحبه غائبا أو حاضرا ، وفي مسألتنا لا يثبت له حق الرجوع إلا إذا كان غائبا ، لأنه إذا كان حاضرا لا يكون مضطرا في إيفاء الكل ، إذ يمكنه أن يخاصمه إلى القاضي في أن ينقد حصته ليقبض نصيبه ، بخلاف مسألة السفل فإن صاحب العلو لو خاصمه في أن يبني السفل لا يقضي عليه ببنائه فكان مضطرا حال حضوره كغيبته ( وله ) أي للحاضر .

ومثل صورة حضورهما في عدم الاضطرار ما لو استأجر رجلان دارا فغاب أحدهما قبل نقد الأجرة فنقد الحاضر جميعها يكون متبرعا ; لأنه غير مضطر في نقد حصة الغائب ، إذ ليس للآجر حبس الدار لاستيفاء الأجرة ذكره التمرتاشي . وإذا ثبت حق الحبس في مسألتنا للحاضر فله حبسه إلى أن يستوفي الكل ، ولو بقي درهم كالوكيل بالشراء إذا نقد الثمن من مال نفسه له أن يحبس المبيع عن الموكل إلى أن يعطيه جميع الثمن .




الخدمات العلمية