الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 288 ] ولا يقبل في الأعيان المنقولة للحاجة إلى الإشارة . وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يقبل في العبد دون الأمة لغلبة الإباق فيه دونها . وعنه أنه يقبل فيهما بشرائط تعرف في موضعها . وعن محمد رحمه الله أنه يقبل في جميع ما ينقل ويحول وعليه المتأخرون .

. [ ص: 288 ]

التالي السابق


[ ص: 288 ] ولا يقبل في الأعيان المنقولة ) كالحمار والثوب والعبد ( للحاجة إلى الإشارة ) فيها ( وعن أبي يوسف أنه قبل في العبد دون الأمة لغلبة الإباق في العبد ) لأنه يخدم خارج البيت فإباقه متيسر فلمساس الحاجة فيه جوزه ، بخلاف الأمة لأنها داخل البيت فلا يتيسر لها تيسره له ( وعن محمد أنه يقبل في جميع ما ينقل ) من الدواب والثياب والإماء ( وعليه المتأخرون ) ونص الإسبيجابي على أن الفتوى عليه ، وبه قال مالك وأحمد والشافعي في قول ، فإن المانع منه ما كان إلا الحاجة إلى الإشارة في الأعيان وهي غائبة في بلد المكتوب إليه ، ولا شك أن في الدين أيضا لا بد من الإشارة إلى المديون ليقضى عليه ومع ذلك اكتفى باسمه وشهرته في الإثبات عليه ، وقبول القاضي الكاتب الشهادة عليه ، وما ذاك إلا لأن عند القضاء من الثاني يتحقق معنى الإشارة والتعيين ، ويتبين ذلك بإيراد الصور ، فصورة الدين إذا شهدوا على فلان بن فلان بن فلان الفلاني أن يكتب كما ذكره الحسن في المجرد من فلان قاضي كورة كذا إلى فلان قاضي كورة كذا سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو .

أما بعد : فإن رجلا [ ص: 289 ] أتاني يقال له فلان بن فلان وذكر أن له حقا على رجل في كورة كذا ولم يذكر في المجرد يقال له فلان بن فلان الفلاني على فلان بن فلان الفلاني ولا بد منه كما سنذكر ، وسألني أن أسمع بينته وأكتب إليك بما يستقر عندي من ذلك ، فسألته البينة فأتاني بعدة منهم فلان وفلان وفلان ويحليهم وينسبهم فشهدوا عندي أن لفلان بن فلان الفلاني على فلان بن فلان الفلاني كذا وكذا درهما دينا حالا ، وسألني أن أحلفه بالله ما قبض منها شيئا ولا قبضه له قابض بوكالة ولا احتال بشيء منها وحلفته فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قبض من هذا المال الذي قامت به البينة عندي ولا قبضه له وكيل ولا أحاله ولا قبضه له قابض وأنها له عليه فسألني أن أكتب له كتابا إليك بما استقر عندي من ذلك فكتبت إليك هذا الكتاب وأشهدت عليه شهودا أنه كتابي وخاتمي وقرأته على الشهود .

قال ثم يطوى الكتاب ويختم عليه ، فإن ختم عليه شهوده فهو أوثق ثم يكتب عليه عنوان الكتاب من فلان قاضي كورة كذا إلى فلان قاضي كورة كذا ثم يدفعه إلى المدعي ، فإذا أتى به المدعي إلى القاضي الذي بالكورة فذكر أن هذا كتاب القاضي إليه سأله البينة على كتاب القاضي ، ولا ينبغي أن يسمع بينة المدعي حتى يحضر الخصم ، فإذا أحضره وأقر أنه فلان بن فلان الفلاني قبل بينته وسمع به ، فإن أنكر قال له جئني بالبينة أن هذا فلان بن فلان الفلاني ، فإن جاء بها وعدلوا سمع بينة المدعي حينئذ على أن هذا كتاب القاضي الذي ذكر ، فيقول لهم : أقرأ عليكم ما فيه ؟ ، فإذا قالوا قرأه علينا وأشهدنا أن هذا كتابه وختمه فإذا سمع منهم لا يفك الخاتم حتى يسأل عنهم ، فإذا عدلوا لا يفكه أيضا حتى يحضر الخصم ، فإذا حضر فكه وقرأه عليهم وعليه ، فإن أقر ألزمه إياه ، وإن أنكر قال ألك حجة وإلا قضيت عليك ، فإن لم يكن له حجة قضى عليه ، وإن كانت له حجة قبلها ، وإن قال لست أنا فلان بن فلان الذي شهدوا عليه بهذا المال لزيد بل هو آخر ، قال له هات بينة أن في هذه الصناعة أو القبيلة رجلا ينتسب بمثل ما تنتسب إليه وإلا ألزمتك ما شهد به الشهود ، فإن جاء ببينة على أن في تلك القبيلة أو الصناعة من ينتسب بمثل ما نسب إليه أبطل الكتاب ، وإن لم يكن في تلك القبيلة أو الصناعة أحد على اسمه واسم أبيه قضى عليه انتهى .

فقد علمت أن التعيين الذي هو المقصود بالإشارة يحصل بآخره الأمر قبل القضاء عليه ، وفي هذه الصورة مواضع وإن كانت ظاهرة ننبه عليها : منها قوله في شهود الكتاب منهم فلان وفلان ويحليهم وينسبهم لم يذكر كتب عدالتهم ولا بد منها ، وقالوا لو كتب وأقام شهودا عدولا عرفتهم بالعدالة أو سألت عنهم فعدلوا كفى عن تسميتهم ونسبهم ، وعندي لا بد أن يقول أحرار عدول إذا لم يسمهم .

والذي يظهر من كلام محمد وغيره أنه لا بد من تسميتهم ونسبة كل منهم ومصلاه وحرفته إن تاجرا فتاجر أو مزارعا فمزارع ، والمقصود تتميم تعريف الشهود ، ثم يذكر أنه عرفهم بالعدالة أو عدلوا لأن الخصم إذا أحضره الثاني قد يكون له مطعن فيهم أو في أحدهم فلا بد من تعيينهم له ليتمكن من الطعن إن كان ، وإلا فيقول سموهم لي فإني قد يكون لي فيهم مطعن .

ومنها قوله إلى فلان قاضي كورة كذا إنما يصح إذا كان القاضي واحدا فإن كان لها قاضيان لا يصح . ومنها قوله في المدعي يقال له فلان بن فلان يتم التعريف في قولهما وعنده لا بد من ذكر الجد ، وكذا الخلاف لو ذكر قبيلته أو صناعته وإن ذكر اسمه ولم يذكر اسم الأب لكن نسبه إلى قبيلته أو فخذه فقال فلان التميمي أو الكوفي وما أشبه ذلك لا يكون [ ص: 290 ] تعريفا بالاتفاق وإن كان مشهورا لا يحتاج إلى هذا .

وقيل ولا بد أن يذكر ادعى المدعي أنه غائب من هذا البلد مسيرة سفر لأن بين العلماء اختلافا في المسافة التي يجوز فيها كتاب القاضي إلى القاضي ، فجماعة من مشايخنا قالوا : لا يجوز فيما دون مسافة القصر ، وبه قال الشافعي وأحمد في وجه .

وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه أنه يجوز فيما دون مسافة القصر ، وقال بعض المتأخرين : هذا قول أبي يوسف ومحمد وبه قال مالك ، والذي يقتضيه مذهب أبي حنيفة أنه لا يجوز كالشهادة على الشهادة . ومنها ختم الشهود ليس بلازم بل هو أوثق كما قال .

ومنها قوله وعدلوا ظاهر في أنه لا يفك الختم حتى يعدل شهود الكتاب وفيه خلاف سيذكر ، وإن كانت دارا قال وادعى أن له دارا في بلد كذا في محلة كذا وذكر حدودها في يد رجل يقال له فلان بن فلان يعرفه على وجه التمام . ولو ذكروا ثلاثة حدود كفى استحسانا خلافا لزفر ، ولو غلطوا في بعض الحدود بطل الكتاب . وصورة كتاب العبد الآبق من مصر بعد العنوان والسلام أن يكتب شهد عندي فلان وفلان بأن العبد الهندي الذي يقال له فلان حليته كذا وقامته كذا وسنه كذا وقيمته كذا ملك فلان المدعي ، وقد أبق إلى الإسكندرية وهو اليوم في يد فلان بغير حق ويشهد على كتابه شاهدين مسافرين إلى الإسكندرية على ما فيه وعلى ختمه كما سيذكر ، فإذا وصل وفعل القاضي ما تقدم وفتح الكتاب دفع العبد إلى المدعي من غير أن يقضى له به لأن الشهود الذين شهدوا بملك العبد للمدعي لم يشهدوا بحضرة العبد ويأخذ كفيلا بنفس العبد من المدعي ويجعل خاتما من القاضي في كتف العبد ولا حاجة إلى هذا إلا لدفع من يتعرض له ويتهمه بسرقته ، فإذا لم يكن لا حاجة ويكتب كتابا إلى قاضي مصر ويشهدان على كتابه على ما عرف ، فإذا وصل الكتاب إليه فعل ما يفعل المكتوب إليه ، ثم يأمر المدعي أن يحضر شهوده ليشهدوا بالإشارة إلى العبد أنه ملكه ، فإذا شهدوا قضى له به وكتب إلى قاضي الإسكندرية بما ثبت عنده ليبرئ كفيله .

وفي بعض الروايات أن قاضي مصر لا يقضي بالعبد للمدعي لأن الخصم غائب ، ولكن يكتب كتابا آخر إلى قاضي الإسكندرية ويذكر فيه ما جرى عنده ويشهد على كتابه وختمه ويرد العبد معه إليه ليقضي به بحضرة المدعى عليه فيفعل ذلك ويبرئ الكفيل . وصورته في الجواري كما في العبد ، إلا أن القاضي المكتوب إليه لا يدفع الجارية إلى المدعي بل يبعثها على يد أمين لاحتمال أنه إذا أرسلها مع المدعي يطؤها لاعتماده أنها ملكه . قال في المبسوط : ولكن أبو حنيفة ومحمد قالا : هذا فيه بعض القبح ، فإنه إذا دفع العبد يستخدمه قهرا ويستغله ، فيأكل من غلته قبل أن يثبت ملكه فيه بالقضاء وربما يظهر العبد لغيره ، ولا يخفى أن ضم محمد مع أبي حنيفة بناء على ظاهر الرواية عنه ، وكلامنا على الرواية عن محمد المختارة للفتوى الموافقة للوجه والأئمة الثلاثة ، وإذا عرفت هذا فالزوجة المدعى باستحقاقها في بلد القاضي المكتوب إليه لا بد أن تجعل من قبيل الأمة فيجري فيها ما يجري فيها لأنه يبعد أن تجري مجرى الديون ، لأنها إذا قالت لست أنا فلانة المشهود على أنها زوجة المدعي المذكور ولم تقدر على بينة أن في قبيلتها من هو على اسمها ونسبها أن تدفع إلى المدعي يطؤها




الخدمات العلمية