الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 507 ] ( وقال أبو حنيفة رحمه الله : لا يجوز التوكيل بالخصومة إلا برضا الخصم إلا أن يكون الموكل مريضا أو غائبا مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا . وقالا : يجوز التوكيل بغير رضا الخصم ) وهو قول الشافعي رحمه الله . ولا خلاف في الجواز إنما الخلاف في اللزوم . [ ص: 508 ] لهما أن التوكيل تصرف في خالص حقه فلا يتوقف على رضا غيره كالتوكيل بتقاضي الديون .

وله أن الجواب مستحق على الخصم ولهذا يستحضره ، والناس متفاوتون في الخصومة ، فلو قلنا بلزومه يتضرر به فيتوقف على رضاه كالعبد المشترك إذا كاتبه أحدهما يتخير الآخر ، بخلاف المريض والمسافر لأن الجواب غير مستحق عليهما هنالك ، [ ص: 509 ] ثم كما يلزم التوكيل عنده من المسافر يلزم إذا أراد السفر لتحقق الضرورة ، ولو كانت المرأة مخدرة لم تجر عادتها بالبروز وحضور مجلس الحكم قال الرازي رحمه الله : يلزم التوكيل لأنها لو حضرت لا يمكنها أن تنطق بحقها لحيائها فيلزم توكيلها . قال : وهذا شيء استحسنه المتأخرون .

التالي السابق


( قوله وقال أبو حنيفة رحمه الله : لا يجوز التوكيل بالخصومة ) من قبل المدعي أو المدعى عليه ( إلا برضا الخصم ) إلا أن يكون الموكل مريضا أو غائبا مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا ( وقالا : يجوز ) ذلك ( بغير رضا الخصم وهو قول الشافعي رحمه الله ) قال المصنف رحمه الله ( ولا خلاف في الجواز إنما الخلاف في اللزوم ) قالوا : فعلى هذا معنى قولنا لا يجوز التوكيل إلخ لا يلزم إلا برضا الآخر .

وأنكر بعض الشارحين ما اتفق عليه غيره من التفسير المذكور بسبب أن المفهوم من عبارة محمد والحسن والطحاوي وكثير خلاف ذلك ، وساق عباراتهم فلم ترد على ما علموه من نحو قول القدوري المسطور هنا ، وهو : لا يجوز التوكيل إلا برضا الخصم ، وهم قد علموا ذلك ولم يشكوا فيه ، وإنما فسروه بذلك .

وسبق المصنف شمس الأئمة إلى ذلك فقال : التوكيل بالخصومة عنده بغير رضا الخصم صحيح ، لكن للخصم أن يطلب الخصم أن يحضر بنفسه ويجيب ، ونحو هذا كلام كثير مما يفيد أنه المراد مما ذكروه . وسبب ذلك أنه لما لم يعرف لأحد القول بأنه إذا وكل فعلم خصمه فرضي لا يكون رضاه كافيا في توجه خصومة الوكيل ولا تسمع حتى يجدد له وكالة أخرى على ما هو مقتضى الظواهر التي ساقها علموا أن المراد بلا تجوز إلا برضاه أنها لا تمضي على الآخر وتلزم عليه إلا أن يرضى ، ومعنى هذا ليس إلا أن اللزوم عليه موقوف على رضاه وهو معنى التأويل المذكور ، ومن العبارات التي نقلها ما عن أبي حنيفة : لا أقبل وكالة من حاضر صحيح إلا أن يرضى خصمه ، وهي قريبة من التفسير المذكور .

والحاصل أنه يجب التعويل على ما ذكره القوم حتى أنه إذا وكل فرضي الآخر لا يحتاج في سماع خصومة الوكيل إلى تجديد وكالة كما هو لازم ما اعتبر من ظاهر العبارة [ ص: 508 ] لهما أن التوكيل ) بالخصومة ( تصرف في خالص حقه ) لأن الخصومة حقه الذي لا يصد عنه فاستنابته فيه تصرف في خالص حقه ( فلا يتوقف على رضا غيره ) وصار ( كالتوكيل ) : بغير ذلك بتقاضي الديون .

وله أن جواب الخصم مستحق على خصمه . ولاستحقاقه عليه يستحضره الحاكم قبل أن يثبت له عليه شيء ليجيبه عما يدعيه عليه . وغاية ما ذكرتم أنه تصرف في خالص حقه لكن تصرف الإنسان في خالص حقه إنما ينفذ إذا لم يتعد إلى الإضرار بغيره ( و ) لا شك أن ( الناس يتفاوتون في الخصومة ) كما صرح قوله عليه الصلاة والسلام { إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له ، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما هي قطعة من نار } ومعلوم أن الوكيل إنما يقصد عادة لاستخراج الحيل والدعاوى الباطلة ليغلب وإن لم يكن الحق معه ، كما أفاده الحديث المذكور .

وفي هذا ضرر بالآخر فلا يلزم إلا بالتزامه ، وصار ( كالعبد المشترك إذا كاتبه أحد الشريكين ) فإنه تصرف في خالص حقه ، ومع هذا لما كان متضمنا الإضرار بالآخر كان له فسخها ، وكمن استأجر دابة ليركبها إجارته إياها تصرف في حقه ومملوكه ، ومع ذلك لا يجوز لما فيه من الإضرار بالمؤجر إذ كان الناس يختلفون في الركوب ، بخلاف ما قاس عليه من التوكيل بتقاضي الدين فإنه بحق ثابت معلوم يقبضه من غير ضرر على الآخر فيه فإن القبض معلوم بجنس حقه وعلى المطلوب أن يقضي ما عليه ، وللتقاضي حد معلوم إذا جاوزه منع منه ، بخلاف الخصومة فإن ضررها أشد من شدة التقاضي ، وعدم المساهلة في القبض لتضمنها التحيل على إثبات [ ص: 509 ] ما ليس بثابت أو دفع ما هو ثابت فلا يقبل بغير رضاه ، إلا إذا كان معذورا وذلك بسفره فإنه يعجز عن الجواب بنفسه مع غيبته أو مرضه ، وتوكيل علي رضي الله عنه وغيره بالخصومة إن لم ينقل فيه استرضاء الخصم لم ينقل عدمه فهو جائز الوقوع فلا يدل لأحد .

قال شمس الأئمة : والذي نختاره أن القاضي إذا علم من المدعي التعنت في إبائه التوكيل يقبله من غير رضاه ، وإذا علم من الموكل القصد إلى الإضرار بالتوكيل لا يقبله إلا برضا الآخر فيتضاءل وقع الضرر من الجانبين .

ثم ذكر في حد المرض : إن لم يستطع المشي ويقدر على الركوب ولو على إنسان لكن يزداد مرضه صح التوكيل ، وإن لم يزدد اختلفوا فيه . والصحيح أن له أن يوكل لأن نفس الخصومة مظنة زيادة سوء المزاج فلا يلزم به ( وكما يلزم التوكيل من المسافر يلزم ) من الحاضر ( عند إرادة السفر ) غير أن القاضي لا يصدقه في دعواه بإرادته فينظر إلى زيه وعدة سفره ويسأله مع من يريد أن يخرج فيسأل رفقاءه عن ذلك ، كما إذا أراد فسخ الإجارة بعذر السفر فإنه لا يصدقه إذا لم يصدقه الآجر فيسأل كما ذكرنا ، فإن قالوا نعم تحقق العذر في فسخها ( قوله ولو كانت المرأة مخدرة ) قال الرازي وهو الإمام الكبير أبو بكر الجصاص أحمد بن علي الرازي ( يلزم التوكيل ) منها ( لأنها لو حضرت لم تستطع أن تنطق بحقها لحيائها فيلزم توكيلها ) أو يضيع حقها .

قال المصنف رحمه الله وهذا شيء استحسنه المتأخرون يعني إما على ظاهر إطلاق الأصل وغيره . عن أبي حنيفة لا فرق بين البكر والثيب المخدرة والبرزة ، والفتوى على ما اختاروه من ذلك ، وحينئذ فتخصيص الرازي ثم تعميم المتأخرين ليس إلا لفائدة أنه المبتدئ بتفريع ذلك وتبعوه .

ثم ذكر في النهاية في تفسير المخدرة عن البزدوي أنها التي لا يراها غير المحارم من الرجال . أما التي جليت على المنصة فرآها الرجال لا تكون مخدرة ، وليس هذا بحق ، بل ما ذكره المصنف من قوله وهي التي لم تجر عادتها بالبروز ، فأما حديث المنصة فقد يكون عادة العوام تفعله بها والدتها ثم لم يعهد لها بروز ومخالطة في قضاء حوائجها بل يفعله غيرها لها ( يلزم توكيلها ) لأن في إلزامها بالجواب تضييع حقها ، وهذا شيء استحسنه المتأخرون وعليه الفتوى .

ثم إذا وكلت فلزمها يمين بعث الحاكم إليها ثلاثة من العدول يستحلفها أحدهم ويشهد الآخران على يمينها أو نكولها . وفي أدب القاضي للصدر الشهيد : إذا كان المدعي عليه مريضا أو مخدرة وهي التي لم يعهد لها خروج إلا لضرورة . فإن كان القاضي مأذونا بالاستخلاف بعث نائبا يفصل الخصومة هناك [ ص: 510 ] وإن لم يكن بعث أمينا وشاهدين يعرفان المرأة والمريض ، فإن بعثهما يشهدان على إقرار كل منهما أو إنكاره مع اليمين لينقلاه إلى القاضي ، ولا بد للشهادة من المعرفة ، فإذا شهدا عليهما قال الأمين وكل من يحضر مع خصمك مجلس الحكم فيحضر وكيله ويشهدان عند القاضي بإقراره أو نكوله لتقام البينة على ذلك الوكيل .

ولو توجه يمين على أحدهما عرضه الأمين عليه ، فإن أبى الحلف عرضه ثلاثا ، فإذا نكل أمره أن يوكل من يحضر المجلس ليشهدا على نكوله بحضرته ، فإذا شهدا بنكوله حكم القاضي عليه بالدعوى بنكوله . قال السرخسي : هذا اختيار صاحب الكتاب ، فإنه لا يشترط للقضاء بالنكول أن يكون على أثر النكول . فأما غيره من المشايخ فشرطوه فلا يمكن القضاء بذلك النكول ، فقال بعضهم : الأمين يحكم عليهما بالنكول ثم ينقله الشاهدان إلى القاضي مع وكيلهما فيمضيه القاضي . وقال بعضهم : يقول القاضي للمدعي أتريد حكما يحكم بينكما بذلك ثمة ؟ فإذا رضي بعث أمينا بالتحكيم إلى الخصم يخبره بذلك ، فإذا رضي بحكمه وحكم ، فإن كان مما لا اختلاف فيه نفذ ، وإن كان مما فيه خلاف توقف على إمضاء القاضي . والقضاء بالنكول مختلف فيه ، فإذا أمضاه نفذ على الكل .

وفي الذخيرة من الأعذار التي توجب لزوم التوكيل بغير رضا الخصم . عند أبي حنيفة رحمه الله : حيض المرأة إذا كان القاضي يقضي في المسجد ، وهذه على وجهين : إن كانت طالبة قبل منها التوكيل بغير رضاه ، أو مطلوبة إن أخرها الطالب إلى أن يخرج القاضي من المسجد لا يقبل توكيلها بغير رضا الطالب . ولو كان الموكل محبوسا فعلى وجهين ، إن كان في حبس هذا القاضي لا يقبل التوكيل بلا رضاه لأن القاضي يخرجه من السجن ليخاصم ثم يعيده ، وإن كان في حبس الوالي ولا يمكنه الوالي من الخروج للخصومة يقبل منه التوكيل




الخدمات العلمية