الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 188 ] قال ( وتجوز الكفالة بأمر المكفول عنه وبغير أمره ) لإطلاق ما روينا ولأنه التزام المطالبة وهو تصرف في حق نفسه وفيه نفع للطالب ولا ضرر فيه على المطلوب بثبوت الرجوع إذ هو عند أمره وقد رضي به ( فإن كفل بأمره رجع بما أدى عليه ) لأنه قضى دينه بأمره [ ص: 189 ] ( وإن كفل بغير أمره لم يرجع بما يؤديه ) لأنه متبرع بأدائه ، وقوله رجع بما أدى معناه إذا أدى ما ضمنه ، أما إذا أدى خلافه رجع بما ضمن [ ص: 190 ] لأنه ملك الدين بالأداء فنزل منزلة الطالب ، كما إذا ملكه بالهبة أو بالإرث ، وكما إذا ملكه المحتال عليه [ ص: 191 ] بما ذكرنا في الحوالة ، بخلاف المأمور بقضاء الدين حيث يرجع بما أدى ; لأنه لم يجب عليه شيء حتى يملك الدين بالأداء ، وبخلاف ما إذا صالح الكفيل الطالب عن الألف على خمسمائة لأنه إسقاط فصار كما إذا أبرأ الكفيل .

التالي السابق


( قوله وتجوز الكفالة بأمر . المكفول عنه وبغير أمره لإطلاق ما روينا ) وهو قوله صلى الله عليه وسلم { الزعيم غارم } فإنه أعم من كونه بإذن وبلا إذن ( ولأنه ) أي عقد الكفالة ( التزام المطالبة وهو ) أي هذا الالتزام ( تصرف في حق نفسه وفيه نفع للطالب بلا ضرر على المطلوب ) لأن ضرره ( بثبوت الرجوع ) ولا رجوع عليه ( لأنه ) أي الرجوع ( عند أمره و ) عند أمره يكون ( قد رضي به ، فإن كفل بأمره رجع بما أدى لأنه قضى دينه بأمره ) مقيد بأمرين : أحدهما : أن يكون المطلوب ممن يصح منه الأمر ، فلو كان صبيا أو محجورا وأمر من يكفل فلا رجوع له عليه ، ولو كان عبدا محجورا فإنما يرجع عليه بعد عتقه ، فلو كان الصبي مأذونا صح أمره ويرجع الكفيل عليه لصحة أمره بسبب الإذن .

ثانيهما : أن يشتمل كلامه على لفظة عني كأن يقول : اكفل عني اضمن عني لفلان أو على قوله وأنا ضامن ونحوه ، فلو قال : اضمن الألف التي لفلان علي لم يرجع عليه عند الأداء ; لأن الكائن مجرد الأمر بالضمان والإعطاء فجاز أن يكون القصد ليرجع وأن يكون القصد طلب تبرعه بذلك فلم يلزم المال ، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد بدليل ما في إشارات الأسرار : إذا قال لرجل اضمن لفلان ألف درهم أو اقضه ألف درهم ففعل لم يرجع على الآمر إلا [ ص: 189 ] إذا كان خليطا أو شريكا .

وقال أبو يوسف : يرجع لأنه وجد القضاء بناء على الأمر فلا بد من اعتبار الأمر فيه ، وأن يكون كذلك إلا إذا كان قضاء من جهة الذي أمر فصار كما لو قال : اقض عني ويتضمن ذلك استقراضا منه ، ومتى قلنا : لا يقع عن الذي أمر لغا الأمر ; لأنه يصير قاضيا عن نفسه فيصير وجود الأمر وعدمه سواء . أما الخليط فيرجع فيه بالإجماع ، والخليط هو الذي يعتاد الرجل مداينته والأخذ منه ووضع الدراهم عنده والاستجرار منه ، وأورد مطالبة بالفرق بين الأمر في الكفالة وبين ما إذا قال أد عني زكاة مالي أو أطعم عني عشرة مساكين فأدى عنه لا يرجع على الآمر ما لم يشرط الضمان فيقول على أني ضامن فلم يكتف بمجرد الأمر في الرجوع وإن ذكر فيه لفظة عني بل حتى يشترط الضمان وفي الكفالة اكتفى به .

وأجاب في الذخيرة ومبسوط شيخ الإسلام بأن الآمر طلب التمليك من المأمور في الفصول كلها لأنه أمره أن يؤدي عنه ويقضي عنه وأن يكون قاضيا عنه إلا بعد أن يصير المقضي به ملكا للآمر ، إلا أن الملك للآمر إنما يثبت في ضمن ملك القابض فيثبت على وقفه ، فمتى ثبت للقابض ملك مضمون بالمثل يثبت للآمر مثل ذلك وإلا فلا . وفي قضاء الدين إنما يثبت للقابض ملك مضمون بالمثل ; لأنه إنما تملكه بالمثل وهو الدين السابق له ، حتى لو ظهر أن لا دين عليه يسترد منه المقبوض فيثبت للآمر ملك مضمون بالمثل ، وليس ذلك إلا القرض . وفي باب الزكاة والكفارة يثبت للقابض ملك غير مضمون بالمثل ، حتى لو ظهر أن لا زكاة عليه لا يسترد من الفقير ما قبض فيثبت للآمر ملك مثل ذلك فلا ضمان عليه إلا بالشرط .

والحاصل أن الأمر في الكفالة تضمن طلب القرض إذا ذكر لفظة عني ، وفي قضاء الزكاة والكفارة طلب اتهاب ; ولو ذكر لفظة عني لما ذكرنا أن الملك إنما يثبت للمكفول عنه على الوجه الذي ثبت للقابض .

وقوله ( وإن كفل بغير أمره لم يرجع ) هو قول الشافعي ورواية عن أحمد ، وقول مالك ورواية عن أحمد يرجع كالوكيل بأمره لأن الطالب بالاستيفاء منه كالمملك لما على المطلوب من الكفيل أو كالمقيم له مقام نفسه في استيفاء المال من الأصيل . وقلنا : تمليك الدين من غير من عليه الدين لا يجوز ، وحيث تساهلنا في شيء من ذلك فإنما معناه التشبيه : أي هو كالمملك ، وفي الكفالة بالأمر يجب المال للكفيل على الأصيل حكما للكفالة كما وجب للطالب بها على الكفيل لكن يتأخر إلى أدائه ، وهذا لا يكون في كفالته بلا أمره ( لأنه متبرع ) ولا يمكن إثبات المال في ذمة المطلوب بلا رضاه ولذلك لا يرجع .

وقوله ( رجع بما أدى معناه إذا أدى ما ضمنه أما إذا أدى خلافه ) فإنما ( يرجع بما ضمن ) حتى لو كان الدين زيوفا : فأدى عنها جيادا فإنما يرجع بالزيوف أو كان الدين جيادا فأدى عنها [ ص: 190 ] زيوفا وتجوز الطالب بها فيرجع بالجياد ، بخلاف المأمور بأداء الدين فإنه يرجع بما أدى ، فلو كان الدين جيادا فأدى زيوفا يرجع بالزيوف ، ولو كان زيوفا فأدى جيادا رجع بالزيوف أيضا ; لأن رجوعه بحكم الأمر ، ولم تدخل صفة الجودة فيما إذا كان الدين زيوفا تحت الأمر .

أما الكفيل فإنما يرجع بحكم الكفالة ، وحكمها أنه يملك الدين بالأداء فيصبر كالطالب نفسه فيرجع بنفس الدين فصار كما إذا ملك الكفيل الدين بالإرث بأن مات الطالب والكفيل وارثه فإن ماله عينه ، وكذا إذا وهب الطالب الدين للكفيل أو تصدق به عليه فإنه يملكه ويطالب به المكفول بعينه .

فإن قيل : ينبغي أن لا تصح هبة الدين من الكفيل ; لأن هبة الدين إنما تصح ممن عليه الدين وليس الدين على الكفيل على المختار ، وبهذه المسألة استدل من قال : إن الكفالة ضم في الدين .

أجيب بأن هبة الدين من غير من عليه الدين إنما لا تجوز إذا لم يأذن للغير في قبضه ، فأما إذا وهب الدين من آخر وأذن له في قبضه جاز استحسانا ، وهنا لما أدى الدين فقد سلطه الطالب على قبضه من المطلوب كذا قيل . والوجه أن يقال بعقد الكفالة سلطه على قبضه عند الأداء ، وإنما اخترنا هذه العبارة لأن بقبض الطالب من الكفيل سقطت ولايته عن الدين الذي على المطلوب إذ صار ملكا له شرعا جبرا من غير اختيار من الطالب فلا يملك التسليط على ما ليس في ملكه .

والأوجه إما اعتبار الدين في ذمة الكفيل كما هو في ذمة الأصيل ويسقط عنهما بأداء أحدهما كما هو أحد القولين ، أو اعتباره كذلك عند الهبة تصحيحا للتصرف . وإذا وهب الكفيل الدين لا بد من قبوله ، بخلاف ما إذا أبرأه ; لأن الواجب عليه المطالبة وبالإبراء تسقط فلا يحتاج إلى القبول ولا يرتد بالرد .

وقوله ( وكما إذا ملك المحتال عليه الدين ) بالأداء إلى المحتال بأن أحال المديون رجلا على رجل ليس له عليه دين فقبل الحوالة وأدى فإنه يملك الدين [ ص: 191 ] الذي على المحيل فيرجع به لا بما أدى ، حتى لو أدى عروضا أو دراهم عن الدنانير لا يرجع إلا بالدين كالكفيل ، وكذا لو وهب المحتال الدين للمحال عليه أو تصدق به عليه أو ورثه المحتال عليه من المحتال .

وقوله ( كما ذكرنا في الحوالة ) أي حوالة كفاية المنتهى ( بخلاف المأمور بأداء الدين فإنه يرجع بما أدى ; لأنه لم يملك الدين بالأداء ) فإنما يرجع بما أدى كما ذكرناه قريبا ( وبخلاف ما إذا صالح الكفيل الطالب عن الألف ) المكفول بها ( على خمسمائة ) حيث يرجع بما أدى وهو الخمسمائة لا بما ضمن وهو الألف ( لأنه إسقاط ) أو هو إبراء عن بعض الدين فيسقط البعض ولا ينتقل إلى الكفيل .

وقوله ( فصار كما لو أبرأ الكفيل ) يعني عن خمسمائة وأخذ منه خمسمائة لا يرجع الكفيل على المكفول عنه إلا بخمسمائة ، فكذلك إذا صالح على خمسمائة عن الألف لا يرجع إلا بخمسمائة ; أو المعنى إذا أبرأ الكفيل عن كل الدين لا يرجع بشيء فكذلك عن بعضه لا يرجع بخلاف ذلك البعض اعتبارا للبعض بالكل .




الخدمات العلمية