الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 400 ] ( ولا المحدود في قذف وإن تاب ) لقوله تعالى { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } ولأنه من تمام الحد لكونه مانعا فيبقى بعد التوبة كأصله ، بخلاف المحدود في غير القذف لأن الرد للفسق وقد ارتفع بالتوبة . وقال الشافعي رحمه الله [ ص: 401 ] تقبل إذا تاب لقوله تعالى { إلا الذين تابوا } استثنى التائب . قلنا : الاستثناء ينصرف إلى ما يليه وهو قوله تعالى { وأولئك هم الفاسقون } [ ص: 402 ] أو هو استثناء منقطع بمعنى لكن .

التالي السابق


( قوله ولا المحدود في قذف وإن تاب ) وقال الشافعي ومالك وأحمد تقبل إذا تاب ، والمراد بتوبته الموجبة لقبول شهادته أن يكذب نفسه في قذفه ، وهل يعتبر معه إصلاح العمل ؟ فيه قولان في قول يعتبر لقوله تعالى { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } وقيل لا لأن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكرة تب قبل شهادتك . وقد يجاب بأن أبا بكرة كان من العباد وحاله في العبادة معلوم . فصلاح العمل كان ثابتا له فلم يبق إلا التوبة بإكذاب نفسه ، وأصله أن الاستثناء في قوله تعالى { إلا الذين تابوا } ينصرف إلى الجملة الأخيرة أو إلى الكل ، والمسألة محررة في الأصول ، وهي أن الاستثناء إذا تعقب جملا متعاطفة هل

[ ص: 401 ] ينصرف إلى الكل أو إلى الأخيرة ؟ عندنا إلى الأخيرة ، وقد تقدم ثلاث جمل هي قوله تعالى { فاجلدوهم } { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } ، { وأولئك هم الفاسقون } والظاهر من عطف " ولا تقبلوا " أنه داخل في حيز الحد للعطف مع المناسبة وقيد التأبيد .

أما المناسبة فلأن رد شهادته مؤلم لقلبه مسبب عن فعل لسانه كما أنه آلم قلب المقذوف بسبب فعل لسانه ، بخلاف قوله صلى الله عليه وسلم { جلد مائة وتغريب عام } فإنه لا يناسب الحد ، لأنه ربما يصلح مانعا في المستقبل من فعله ، والتغريب سبب لزيادة الوقوع لأنه لغربته وعدم من يعرفه لا يستحي من أحد يراقبه ، فإذا فرض أن له داعية الزنا أوسع فيه ، وكذا قيد التأبيد لا فائدة له إلا تأييد الرد ، وإلا لقال : ولا تقبلوا لهم شهادة . { وأولئك هم الفاسقون } جملة مستأنفة لبيان تعليل عدم القبول .

ثم استثنى الذين تابوا ، وهذا لأن الرد على ذلك التقدير ليس إلا للفسق ويرتفع بالتوبة فلا معنى للتأبيد على تقدير القبول بالتوبة . وأما رجوع الاستثناء إلى الكل قوله تعالى في المحاربين { أن يقتلوا أو يصلبوا } إلى قوله تعالى { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } حتى سقط عنهم الحد فلدليل اقتضاه ، وهو قوله تعالى { من قبل أن تقدروا عليهم } فإنه لو عاد إلى الأخيرة : أعني قوله تعالى { ولهم عذاب عظيم } لم يبق لقوله { من قبل أن تقدروا عليهم } فائدة للعلم بأن التوبة تسقط العذاب .

ففائدة قوله تعالى { من قبل أن تقدروا عليهم } ليس إلا سقوط الحد ، وهذا لأنا إنما نقول بعود الاستثناء إلى الأخيرة فقط إذا تجرد عن دليل عوده إلى الكل ، فأما إذا اقترن به عاد إليها كما يقول هو إن عوده إلى الكل إذا تجرد عن دليل عوده إلى الأخيرة فقط ولو اقترن به عاد إليها فقط ، وحينئذ فالقياس على سائر الحدود غير صحيح لأنها لم تقترن بما يوجب أن الرد من تمام الحد فكان قياسا في مقابلة النص .

لا يقال : رد الاستثناء إلى الجملة الأخيرة ينفي الفائدة لأنه معلوم شرعا أن التوبة تزيل الفسق بغير هذه الآية لأنا نقول : كون التوبة تزيل استحقاق العقاب بعد ثبوته لا يعرف عقلا بل سمعا ، وذلك بإيراد ما يدل عليه من السمع وهذا منه ، وكون آية أخرى تفيده لا يضر للقطع بأن طريق القرآن تكرار الدوال خصوصا إذا كان مطلوب التأكيد { كأقيموا الصلاة } وقد تكرر قوله تعالى { إلا الذين تابوا } لذلك الغرض ، ففي آية { إلا الذين تابوا } إلى قوله { فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم } .

وفي أخرى { إلا من تاب وآمن } إلى قوله تعالى { فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا } وفي أخرى { إلا من تاب } إلى قوله تعالى { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } ومواضع أخرى عديدة ، ولم يسمع أن يقال في أحدها قد عرف هذا بآية أخرى فلا فائدة في هذا إلا من أقدم على الكفر والعياذ بالله تعالى ، وإنما كان هذا منه تعالى رحمة للعباد ليؤكد هذا المعنى ، ولأنه إذا لم يذكره إلا في موضع واحد فعسى أن لا يسمعه بعض الناس ، فإذا تعددت مواضعه فمن لم [ ص: 402 ] يسمع تلك الآية سمع تلك ، ومن لم يسمع تلك سمع أخرى فكان في تعداده إفادة هذا المعنى نصب مظنة علمه لكل أحد مع تأكيد جانب عفوه لا نحصي ثناء عليه .

وأما ما عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأبي بكرة تب أقبل شهادتك ففي ثبوته نظر ، لأن راويه عمرو بن قيس ، ولو تركنا النظر في ذلك كان معارضا بما قاله لأبي موسى الأشعري في كتابه له : والمسلمون عدول بعضهم على بعض ، إلا مجلودا في قذف ، أو مجربا في شهادة زور ، أو ظنينا بقرابة .

وقد قدمنا عنه عليه الصلاة والسلام من رواية ابن أبي شيبة قوله صلى الله عليه وسلم { المسلمون عدول بعضهم على بعض ، إلا محدودا في قذف } وبقولنا قال سعيد بن المسيب وشريح والحسن وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ، وهكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهم . قال المصنف ( أو هو استثناء منقطع ) وذلك لأن التائبين ليسوا داخلين في الفاسقين ، فكأنه قيل : وأولئك هم الفاسقون لكن الذين تابوا فإن الله غفور رحيم : أي يغفر لهم ويرحمهم ، وإذا كان الرد من تمام الحد لكونه مانعا : أي زاجرا يبقى بعد التوبة كأصله : أي كأصل الحد فإنه لا يسقط بالتوبة ، فكذا ما كان تماما له .

وفي المبسوط : الصحيح من المذهب عندنا أنه إذا أقام أربعة من الشهود على صدقه بعد الحد تقبل شهادته .




الخدمات العلمية