الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 300 ] قال ( وإذا رفع إلى القاضي حكم حاكم أمضاه إلا أن يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع بأن يكون قولا لا دليل عليه . وفي الجامع الصغير : وما اختلف فيه الفقهاء فقضى به القاضي ثم جاء قاض آخر يرى غير ذلك أمضاه ) .

[ ص: 301 - 303 ] والأصل أن القضاء متى لاقى فصلا مجتهدا فيه [ ص: 304 ] ينفذه ولا يرده غيره ، لأن اجتهاد الثاني كاجتهاد الأول ، وقد يرجح الأول باتصال القضاء به فلا ينقض بما هو دونه .

التالي السابق


( قوله وإذا رفع إلى القاضي حكم حاكم أمضاه إلا أن يخالف الكتاب أو السنة ) المشهورة ( أو الإجماع بأن يكون قولا لا دليل عليه ) وفي بعض نسخ القدوري : أو يكون قولا إلخ ( وفي الجامع الصغير : وما اختلف فيه الفقهاء فقضى به القاضي ثم جاء قاض آخر يرى غير ذلك أمضاه ) قالوا : إنما أعاده لأن في عبارة الجامع فائدتين ليستا في القدوري : إحداهما تقييده بالفقهاء ، أفاد أنه لو لم يكن عالما بالخلاف لا ينفذ . قال شمس الأئمة : وهو ظاهر المذهب وعليه الأكثر .

والثانية : التقييد بكون القاضي يرى غير ذلك ، فإن القدوري لم يتعرض لهذا فيحتمل أن يكون مراده أنه إذا كان رأيه في ذلك موافقا لحكم الأول أمضاه ، وإن كان مخالفا له لا يمضيه ، فأبانت رواية الجامع أن الإمضاء عام فيما سوى المستثنيات سواء كان ذلك مخالفا لرأيه أو موافقا : يعني بالطريق [ ص: 301 ] الأولى ، ولا يخفى أنه لا دلالة في عبارة الجامع على كونه عالما بالخلاف ، وإنما مفاده أن ما اختلف فيه الفقهاء في نفس الأمر فقضى القاضي بذلك الذي اختلف فيه عالما بأنه مختلف فيه ، أو غير عالم فإنه أعم من كونه عالما ، ثم جاء قاض آخر يرى خلاف ذلك الذي حكم به هذا أمضاه فربما يفيد أن الثاني عالم بالخلاف ، وليس الكلام فيه فإن هذا هو المنفذ والكلام في القاضي الأول الذي ينفذ هذا الآخر حكمه ، وليس فيه دليل على أنه كان عالما بالخلاف بطريق من طرق الدلالة .

نعم في الجامع التنصيص على أنه ينفذه وإن كان خلاف رأيه ، وكلام القدوري يفيده أيضا فإنه قال : إذا رفع إليه حكم حاكم أمضاه وهو أعم ينتظم ما إذا كان موافقا لرأيه أو مخالفا ، وإنما في الجامع النصوصية عليه إذا كان مخالفا .

وقوله إلا أن يخالف إلخ حاصله بيان شرط جواز الاجتهاد ، ومنه يعلم كون المحل مجتهدا فيه حتى تجوز مخالفته أو لا ، فشرط حل الاجتهاد أن لا يكون مخالفا للكتاب أو السنة : يعني المشهورة ، مثل { البينة على المدعي واليمين على من أنكر } فلو قضى بشاهد ويمين لا ينفذ ويتوقف على إمضاء قاض آخر ذكره في أقضية الجامع ، وفي بعض المواضع ينفذ مطلقا ، ثم يراد بالكتاب المجمع على مراده أو ما يكون مدلول لفظه ولم يثبت نسخه ولا تأويله بدليل مجمع عليه .

فالأول مثل { حرمت عليكم أمهاتكم } الآية ، لو قضى قاض بحل أم امرأته كان باطلا لا ينفذ . والثاني مثل { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } ولا ينفذ الحكم بحل متروك التسمية عمدا ، وهذا لا ينضبط فإن النص قد يكون مؤولا فيخرج عن ظاهره ، فإذا منعناه يجاب بأنه مؤول بالمذبوح للأنصاب أيام الجاهلية فيقع الخلاف في أنه مؤول أو ليس بمؤول ، فلا يكون حكم أحد المتناظرين بأنه غير مؤول قاضيا على غيره بمنع الاجتهاد فيه . نعم قد يترجح أحد القولين على الآخر بثبوت دليل التأويل فيقع الاجتهاد في بعض أفراد هذا القسم أنه مما يسوغ فيه الاجتهاد أو لا ، ولذا نمنع نحن نفاذ القضاء في بعض الأشياء ويجيزونه وبالعكس ، ولقد نقل الخلاف في الحل عندنا أيضا وإن كان كثير لم يحكوا الخلاف . ففي الخلاصة في رابع جنس من الفصل الرابع من أدب القاضي قال : وأما القضاء بحل متروك التسمية عمدا فجائز عندهما ، وعند أبي يوسف لا يجوز انتهى .

وأما عدم تسويغ الاجتهاد بكونه مخالفا للإجماع وسواء كان ذلك على الحكم أو على تأويل السمعي أو بنقل عدم تسويغ فقهاء العصر اجتهاده ، وذلك مثل اجتهاد ابن عباس رضي الله عنهما في جواز بيع الدرهم بالدرهمين لم يقبله الصحابة منه ، فلو قضى به قاض لا ينفذ حتى روي أنه رجع عنه ، وهذا هو مراد المصنف بقوله وفيما اجتمع عليه الجمهور لا يعتبر مخالفة البعض ، ولا يعني أنه لا يعتبر في انعقاد الإجماع بل لا يعتبر في جواز الاجتهاد ، ولم يرد بالبعض ما دون النصف أو ما دون الكل بل الواحد والاثنين وإلا لم يعتبر قضاء في محل مجتهد فيه أصلا ، إذ ما من محل اجتهاد إلا وأحد الفريقين أقل من الفريق الآخر ، إذ لا يضبط تساوي الفريقين ولذا لم يمثلوه قط إلا بخلاف ابن عباس ونحوه ، وهو خلاف رجل واحد ، فالمراد إذا اتفق أهل الإجماع على حكم فخالفهم واحد لا يصير المحل بذلك محل اجتهاد حتى لا ينفذ القضاء بقوله ذلك الواحد في مقابلة قول الباقين ، ثم هذا أعم من كونهم سوغوا اجتهاده ذلك أو لا .

والذي صححه شمس الأئمة واختاره أن الواحد المخالف إن سوغوا له [ ص: 302 ] اجتهاده لا يثبت حكم الإجماع ، وإن لم يسوغوا لا يصير المحل مجتهدا فيه . قال : وإليه أشار أبو بكر الرازي لأن ذلك كما قال المصنف خلاف لا اختلاف . ثم قال المصنف : المعتبر الاختلاف في الصدر الأول : يعني أن يكون المحل محل اجتهاد يتحقق الخلاف فيه بين الصحابة . وقد يحتمل بعض العبارات ضم التابعين ، وعليه فرع الخصاف أن للقاضي أن ينقض القضاء ببيع أم الولد لأنه مخالف لإجماع التابعين . وقد حكي في هذا الخلاف عندنا ، فقيل هذا قول محمد ، أما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف فيجوز قضاؤه ولا يفسخ .

وفي النوازل عن أبي يوسف لا ينفذ القضاء به ، فاختلفت الرواية عن أبي يوسف . وقال شمس الأئمة السرخسي : هذه المسألة تنبني على أن الإجماع المتأخر يرفع الخلاف المتقدم عند محمد . وعند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يرفع : يعني اختلفت الصحابة في جواز بيعهن ، فعن علي الجواز وعمر وغيره على منعه ، ثم أجمع التابعون على عدم جواز بيعهن فكان قضاء القاضي به على خلاف الإجماع عند محمد فيبطله الثاني .

وعندهما لما لم يرفع اختلاف الصحابة وقع في محل الاجتهاد فلا ينقضه الثاني ، ولكن قال القاضي أبو زيد في التقويم : إن محمدا روى عنهم جميعا أن القضاء ببيع أم الولد لا يجوز ، فقد علمت ما هنا من تشعب الاختلاف في الرواية .

وبناء على اشتراط كون الخلاف في الصدر الأول في كون المحل اجتهاديا قال بعضهم : إن للقاضي أن يبطل ما قضى به القاضي المالكي والشافعي برأيه : يعني إنما يلزم إذا كان قول مالك أو الشافعي وافق قول بعض الصحابة أو التابعين المختلفين فلا ينقض باعتبار أنه مختلف بين الصدر الأول لا باعتبار أنه قول مالك والشافعي ، فلو لم يكن فيها قول الصدر الأول بل الخلاف مقتضب فيها بين الإمامين للقاضي أن يبطله إذا خالف رأيه .

وعندي أن هذا لا يعول عليه ، فإن صح أن مالكا وأبا حنيفة والشافعي مجتهدون فلا شك في كون المحل اجتهاديا وإلا فلا ، ولا شك أنهم أهل اجتهاد ورفعة ، ولقد نرى في أثناء المسائل جعل المسألة اجتهادية ، بخلاف بين المشايخ حتى ينفذ القضاء بأحد القولين فكيف لا يكون كذلك إذا لم يعرف الخلاف إلا بين هؤلاء الأئمة ، يؤيده ما في الذخيرة عن الحلواني أن الأب إذا خلع الصغيرة على صداقها ورآه خيرا لها بأن كانت لا تحسن العشرة مع زوجها فإن على قول مالك يصح ويزول الصداق عن ملكها ويبرأ الزوج عنه ، فإذا قضى به قاض نفذ . وفي حيض منهاج الشريعة عن مالك فيمن طلقها فمضى عليها ستة أشهر لم تر دما فإنها تعتد بعده بثلاثة أشهر ، فإذا قضى بذلك قاض ينبغي أن ينفذ لأنه مجتهد فيه ، إلا أنه نقل مثله عن ابن عمر قال : وهذه المسألة يجب حفظها لأنها كثيرة الوقوع ، ثم ذكر في المنتقى أن العبرة بكون المحل مجتهدا فيه اشتباه الدليل لا حقيقة الخلاف . قال : ألا ترى أن القاضي إذا قضى بإبطال طلاق المكره نفذ لأنه مجتهد فيه لأنه موضع اشتباه الدليل إذ اعتبار الطلاق بسائر تصرفاته ينفي حكمه ، وكذا لو قضى في حد أو قصاص بشهادة رجل وامرأتين ثم رفع إلى قاض آخر يرى خلاف ذلك ينفذه ، وليس طريق القضاء الأول كونه في مختلف فيه ، وإنما طريقه أن القضاء الأول حصل في موضع اشتباه الدليل لأن المرأة من أهل الشهادة ، إذ ظاهر قوله تعالى { فرجل وامرأتان } يدل على جواز شهادتهن مع الرجال مطلقا وإن وردت في المداينة لأن العبرة لعموم اللفظ ، ولم يرد نص قاطع في إبطال شهادة النساء في هذه الصورة ; ولو قضى بجواز نكاح بلا شهود نفذ لأن المسألة مختلف فيها ، فمالك وعثمان البتي يشترطان الإعلان لا الشهود ، وقد اعتبر خلافهما لأن الموضع موضع اشتباه الدليل ، إذ اعتبار النكاح بسائر [ ص: 303 ] التصرفات يقتضي أن لا تشترط الشهادة انتهى .

ولا يخفى أنه إذا كانت معارضة المعنى للدليل السمعي النص توجب اشتباه الدليل فيصير المحل محل اجتهاد ينفذ القضاء فيه ، فكل خلاف بين الشافعي ومالك أو بيننا وبينهم أو أحدهم محل اشتباه الدليل حينئذ إذ لا يخلو عن مثل ذلك فلا يجوز نقضه من غير توقف على كونه بين الصدر الأول ، ولا بأس بذكر مواضع نص فيها أهل المذهب بعينها إذا قضى القاضي بالقصاص يحلف المدعي أن فلانا قتله وهناك لوث من عداوة ظاهرة كقول مالك لا ينفذ لمخالفة السنة المشهورة { البينة على المدعي واليمين على من أنكر } مع أن معه ظاهرا في حديث محيصة وحويصة نذكره في القسامة إن شاء الله تعالى رب العالمين .

ولو قضى بحل المطلقة ثلاثا بمجرد عقد الثاني بلا دخول كقول سعيد بن المسيب لا ينفذ لذلك أيضا وهو حديث العسيلة . وفي السير من الجامع الكبير : إذا قضى أن الكفار لا يملكون ما استولوا عليه لا ينفذ لأنه لم يثبت في ذلك اختلاف الصحابة ، ولو قضى بشهادة الزوج لزوجته نفذ . وفي الفصول نقلا عن فتاوى رشيد الدين : الزوج الثاني إذا طلقها بعد الدخول ثم تزوجها ثانيا وهي في العدة ثم طلقها قبل الدخول فتزوجها الأول قبل انقضاء العدة وحكم الحاكم بصحة هذا النكاح ينفذ لأن للاجتهاد فيه مساغا وهو صريح { ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } وهو أيضا مذهب زفر . ولو قضى في المأذون في نوع أنه مأذون فيه فقط كمذهب الشافعي يصير متفقا .

ولو قضى بنصف الجهاز فيمن طلقت قبل الدخول وقد قبضت المهر فتجهزت لا ينفذ لأنه خلاف الجمهور ، وينفذ القضاء بجواز بيع المدبر . ولو قضى بعدم جواز عفو الزوجة عن دم العمد بناء على قول البعض إنه لا حق لها في القصاص لا ينفذ . ولو زنى بأم امرأته فقضى بإقرار البنت معه نفذ .

وحكى في الفصول فيما إذا زنى بامرأة ثم تزوج بنتها فقضى بجوازه خلافا عند أبي يوسف لا ينفذ للنص عليه ، وعند محمد يجوز ، وبصحة السلم في الحيوان ينفذ ، وينفذ بالقرعة في رقيق أعتق الميت واحدا منهم وبالشهادة لأبيه ، وعكسه ينفذ عند أبي يوسف ولا ينفذ عند محمد ، وبالشهادة على الشهادة فيما دون مدة السفر نفذ وبشهادة شهود على وصية مختومة من غير أن يقرأها عليهم الميت أمضاه الآخر وبصحة النكاح الموقت بأيام نفذ ولو عقدا موقتا بلفظ المتعة ، نحو متعيني بنفسك عشرة أيام لا ينفذ .

ولو قضى برد زوجته بالعيوب من العمى والجنون نفذ لأن عمر رضي الله عنه يقول بردها بالعيوب الخمسة ، وكذا بصحة رد الزوجة له . ولو قضى بسقوط المهر بالتقادم بلا إقرار ولا بينة لم ينفذ ، وكذا إذا قضى أن لا يؤجل العنين . هذا في القضاء بالمجتهد فيه .

أما إذا كان نفس القضاء مجتهدا فيه فهذه فريعات منه ، وأصله أن الخلاف إذا كان في نفس القضاء والواقع توقف على إمضاء قاض آخر فإن أمضاه ليس للثالث نقضه لأن قضاء الثاني هو الذي وقع في مجتهد فيه : أعني قضاء الأول . وعليه فرع إذا قضى بالحجر على المفسد للفساد لا ينفذ لتحقق الخلاف في القضاء فيتوقف على إمضاء قاض آخر ، وقيل أن يمضي الثاني نقضه لأنه ليس قضاء في مجتهد فيه ، وكذا لو قضى لامرأته بشهادة رجلين فالقاضي الثاني مخير بين أن يجيزه أو يرده لأن الخلاف وقع في نفس القضاء ، ومنه ما لو قضى المحدود أو الأعمى .

وأما قضاء السلطان في أمر فالأصح أنه ينفذ ، وقيل لا ينفذ . فعلى القول بأنه لا ينفذ يحتاج في نفاذه إلى أن ينفذه قاض آخر . وقيل في مسألة الحجر في صحة نقض الثاني إن قضاء الأول ليس بقضاء لعدم المقضي له وعليه نفذ قضاء الثاني بإطلاقه عن الحجر .

( قوله والأصل ) حاصله توجيه [ ص: 304 ] أن القاضي الثاني ينفذ خلاف رأيه في المرفوع إليه وهو أن اجتهاد الثاني في البطلان كاجتهاد الأول في الصحة مثلا فتعارض اجتهاداهما وترجح الأول باتصال القضاء به فلا ينقضه الثاني باجتهاد هو دونه .




الخدمات العلمية