الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ولا يرجع المحتال على المحيل إلا أن يتوى حقه ) وقال الشافعي رحمه الله : لا يرجع وإن توي لأن البراءة [ ص: 244 ] حصلت مطلقة فلا تعود إلا بسبب جديد . ولنا أنها مقيدة بسلامة حقه له إذ هو المقصود ، أو تنفسخ الحوالة لفواته لأنه قابل للفسخ [ ص: 245 ] فصار كوصف السلامة في المبيع . قال ( والتوى عند أبي حنيفة رحمه الله أحد الأمرين : [ ص: 246 ] إما أن يجحد الحوالة ويحلف ولا بينة له عليه ، أو يموت مفلسا ) لأن العجز عن الوصول يتحقق بكل واحد منهما وهو التوى في الحقيقة ( وقالا هذان الوجهان . ووجه ثالث وهو أن يحكم الحاكم بإفلاسه حال حياته )

وهذا بناء على أن الإفلاس لا يتحقق بحكم القاضي عنده خلافا لهما ، لأن مال الله غاد ورائح .

التالي السابق


( قوله ولم يرجع المحتال على المحيل إلا أن يتوى حقه . وقال الشافعي رحمه الله : لا يرجع وإن توي ) [ ص: 244 ] بموت أو إفلاس أو غيره ، وهو قول أحمد والليث وأبي عبيد . وعن أحمد إذا كان المحال عليه مفلسا ولم يعلم الطالب بذلك فله الرجوع إلا أن يرضى بعد العلم وهو قول مالك ، لأن الإفلاس عيب في المحال عليه فله أن يرجع بسببه كالمبيع ، ولأن المحيل غره فهو كما لو دلس المبيع يرجع به ( لأن البراءة ) الحاصلة بالانتقال ( حصلت مطلقة فلا تعود إلا بسبب جديد ) ولا سبب فلا عود .

ويؤيده ما روي عن ابن المسيب أنه كان له على علي رضي الله عنها دين فأحاله به على آخر فمات المحتال عليه فقال ابن المسيب اخترت عليا فقال له أبعدك الله فمنع رجوعه ، ونحن نمنع كون البراءة مطلقة بل هي مقيدة معنى بشرط السلامة وإن كانت مطلقة ، وهذا القيد ثبت بدلالة الحال وهو أن المقصود من شرع الحوالة ليس مجرد الوجوب على الثاني لأن الذمم باعتبار هذا القدر متساوية ، وإنما تتفاوت في إحسان القضاء وعدمه ، فالمقصود التوصل إلى الاستيفاء من المحل الثاني على الوجه الأحسن ، وإلا لم ينتقل عن الأول فصارت السلامة من المحل الثاني كالمشروط في العقد الأول ، فإذا لم يحصل المشروط عاد حقه على الأصيل [ ص: 245 ] فصار كما لو صالح على عين فهلكت قبل التسليم يعود الدين لأن البراءة ما ثبتت مطلقة بل بعوض ، فإذا لم يسلم يعود .

يؤيده ما روي عن عثمان رضي الله عنه مرفوعا وموقوفا في المحتال عليه إذا مات مفلسا قال : يعود الدين إلى ذمة المحيل ، وقال لا توى على مال امرئ مسلم . ولفظ الأسرار قال : إذا توي المال على المحتال عليه عاد الدين على المحيل كما كان ، ولا توى على مال مسلم . وذكر محمد في الأصل عن شريح بمثل ذلك ، وهذان الحديثان متعارضان ، فإن كانا صحيحين أو لم يثبتا فقد تكافآ . هذا واختلفت عباراتهم في كيفية العود فقيل بفسخ الحوالة أي بفسخها المحتال ويعاد الدين كالمشتري إذا وجد بالمبيع عيبا ، وقيل تنفسخ ويعود الدين كالمبيع إذا هلك قبل القبض ، وقيل في الموت عن إفلاس تنفسخ ويعود . وفي الجحود يفسخ ويعاد ، وفي طريقة الخلاف قالوا لو مات المحيل والمحال عليه مفلسين لا يرجع فكذا ما نحن فيه . قلنا : لا نسلم بل له الرجوع إلا أنه سقطت المطالبة بالإعسار ولهذا كلما ظهر لأحدهما مال أخذه كما في الكفيل والمكفول عنه إذا ماتا مفلسين تبطل الكفالة ، ثم لا يدل على أن المطالبة لا تثبت حالة حياة المكفول عنه . قالوا : مال الحوالة جعل كالمقبوض ، لأنه لو لم يكن كالمقبوض لأدى إلى الافتراق عن دين بدين ، ولأنه تجوز الحوالة برأس مال السلم والصرف ، ولولا أنه كالمقبوض لم تجز الحوالة . وإذا مات المحيل مفلسا لا يكون المحتال أسوة للغرماء ، وإذا كان كالمقبوض لا يرجع . قلنا : ليس كالمقبوض وإلا لجاز للمحتال أن يشتري شيئا من غير المحتال عليه كما يجوز أن يشتري به من المحتال عليه . وقولهم لو لم يكن كالمقبوض صار دينا بدين إنما يلزم لو كان القصد منه المعاوضة وليس كذلك كالقرض .

وأما الصرف والسلم فحجة لنا لأنه لو كان كالمقبوض لجاز أن يتفرقا عن المجلس من غير قبض وليس كذلك فإنه إذا أحال بهما فلو افترقا من غير قبض يفسد العقد ، ولو كانت الحوالة قبضا لكان هذا افتراقا بعد القبض فلا يفسد العقد ، وأما كون المحتال لا يصير أسوة الغرماء إذا مات المحيل ولا مال له سوى ما على المحتال عليه فممنوع . قال في الجامع الكبير : ولو أن المحال أخر الحويل سنة ثم مات المحيل وعليه دين آخر سوى دين المحال يقسم دينه على الحويل بين المحال وبين الغرماء بالحصص لأن هذا مال المحيل ولم يصر بالحوالة ملكا للمحال لأن تمليك الدين من غير من عليه الدين لا يتصور لكن تعلق به حق المحال وبهذا لا يصير المحال أخص به ما لم تثبت اليد بدليل أن العبد المأذون إذا كان عليه دين يتعلق حق صاحب الدين برقبته وكسبه لو وجب بعد ذلك دين آخر كان رقبته ثم وكسبه بين الكل بالحصص انتهى . وإذا عرف أنه يرجع بالتوى بين التوى بقوله ( والتوى عند أبي حنيفة رحمه الله بكل من أمرين : [ ص: 246 ] إما أن يجحد الحوالة ويحلف ولا بينة عليه ) للمحتال ولا للمحيل ، فقوله ( له ) يعني كلا من المحيل والمحتال ( أو يموت مفلسا ) لا مال له معينا ولا دينا ولا كفيل عنه بدين المحتال ، وعندهما بهذين . ووجه آخر وهو أن يحكم حاكم بإفلاسه ، وهذا بناء على أن تفليس القاضي يصح عندهما ، وعنده لا يصح لأنه يتوهم ارتفاعه بحدوث مال له فلا يعود بتفليس القاضي على المحيل . والتوى التلف ، يقال منه توي بوزن علم يتوى وهو تو وتاو .

ولو قال المحتال مات مفلسا وقال المحيل بخلافه ففي الشافي والمبسوط : القول للطالب مع اليمين على العلم لأنه متمسك بالأصل وهو العسرة ، ولو كان حيا فزعم أنه مفلس فالقول له فكذلك بعد موته . وفي شرح الناصحي : القول للمحيل مع اليمين لإنكاره عود الدين .




الخدمات العلمية