الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 292 ] قال ( ويجب أن يقرأ الكتاب عليهم ليعرفوا ما فيه أو يعلمهم به ) لأنه لا شهادة بدون العلم ( ثم يختمه بحضرتهم ويسلمه إليهم ) كي لا يتوهم التغيير ، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد ، لأن علم ما في الكتاب والختم بحضرتهم شرط ، وكذا حفظ ما في الكتاب عندهما ولهذا يدفع إليهم كتاب آخر غير مختوم ليكون معهم معاونة على حفظهم . وقال أبو يوسف رحمه الله آخرا : شيء من ذلك ليس بشرط ، والشرط أن يشهدهم أن هذا كتابه وختمه وعن أبي يوسف أن الختم ليس بشرط أيضا فسهل في ذلك لما ابتلي بالقضاء وليس الخبر كالمعاينة . واختار شمس الأئمة السرخسي رحمه الله قول أبي يوسف رحمه الله .

[ ص: 293 ] قال ( وإذا وصل إلى القاضي لم يقبله إلا بحضرة الخصم ) لأنه بمنزلة أداء الشهادة فلا بد من حضوره ، بخلاف سماع القاضي الكاتب لأنه للنقل لا للحكم .

[ ص: 294 ] قال ( فإذا سلمه الشهود إليه نظر إلى ختمه ، فإذا شهدوا أنه كتاب فلان القاضي سلمه إلينا في مجلس حكمه وقرأه علينا وختمه فتحه القاضي وقرأه على الخصم وألزمه ما فيه ) وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله . وقال أبو يوسف رحمه الله : إذا شهدوا أنه كتابه وخاتمه قبله على ما مر ، ولم يشترط في الكتاب ظهور العدالة للفتح ، والصحيح أنه يفض الكتاب بعد ثبوت العدالة ، كذا ذكره الخصاف رحمه الله لأنه ربما يحتاج إلى زيادة الشهود وإنما يمكنهم أداء الشهادة بعد قيام الختم ، [ ص: 295 ] وإنما يقبله المكتوب إليه إذا كان الكاتب على القضاء ، حتى لو مات أو عزل أو لم يبق أهلا للقضاء قبل وصول الكتاب لا يقبله لأنه التحق بواحد من الرعايا ، ولهذا لا يقبل إخباره قاضيا آخر في غير عمله أو في غير عملهما ، وكذا لو مات المكتوب إليه إلا إذا كتب إلى فلان بن فلان قاضي بلدة كذا وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين لأن غيره صار تبعا له وهو معرف ، [ ص: 296 ] بخلاف ما إذا كتب ابتداء إلى كل من يصل إليه على ما عليه مشايخنا رحمه الله تعالى لأنه غير معرف ، ولو كان مات الخصم ينفذ الكتاب على وارثه لقيامه مقامه .

التالي السابق


( قوله ويجب أن يقرأ الكتاب عليهم ) شروع في بيان الشروط الموعود بذكرها في قوله ويختص بشرائط نذكرها . والحاصل إن شهد الشهود على ما في الكتاب فلا بد حينئذ من أن يقرأه عليهم أو يعلمهم ما فيه : أي بإخباره لأنه لا شهادة بلا علم بالمشهود به كما لو شهدوا بأن هذا الصك مكتوب على فلان لا يفيد ما لم يشهدوا بما تضمنه من الدين واشتراط علمهم بما في كتاب القاضي قول أبي حنيفة ومحمد والشافعي وأحمد ومالك في رواية .

ومن أن يشهدوا أنه ختمه وذلك بأن يختمه بحضرتهم ويسلمه إليهم ، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد ، ولا بد أن يكون الكتاب معنونا : أي مكتوبا فيه العنوان الذي قدمناه وهو اسم الكاتب واسم المكتوب إليه ونسبهما والشرط العنوان الباطن ، فإن لم يوجد وكان معنونا في الظاهر لا يقبله لتهمة التغيير ، وعن هذا قيل ينبغي أن يكون معه نسخة أخرى مفتوحة ليستعينوا بها على حفظ ما في الكتاب فإنه لا بد من التذكر من وقت الشهادة إلى وقت الأداء عندهما .

( وقال أبو يوسف رحمه الله آخرا : شيء من ذلك ليس بشرط ، فالشرط أن يشهدهم أن هذا كتابه وختمه ) بعدما كان أولا يقول كقول أبي حنيفة ( وعن أبي يوسف أيضا أن الختم ليس بشرط أيضا رخص في ذلك لما ابتلي بالقضاء وليس الخبر كالمعاينة ، وهذا اختيار شمس الأمة السرخسي ) ولا شك [ ص: 293 ] عندي في صحته فإن الفرض إذا كان عدالة الشهود وهم حملة الكتاب فلا يضره كونه غير مختوم مع شهادتهم أنه كتابه ، نعم إذا كان الكتاب مع المدعي ينبغي أن يشترط الختم لاحتمال التغيير إلا أن يشهدوا بما فيه حفظا ، فالوجه إن كان الكتاب مع الشهود أن لا تشترط معرفتهم لما فيه ولا الختم ، بل تكفي شهادتهم أنه كتابه مع عدالتهم ، وإن كان مع المدعي اشترط حفظهم لما فيه فقط ومن الشروط أن يكتب فيه التاريخ ، فلو لم يكتب لا يقبل ، وذلك لينظر هل هو كان قاضيا في ذلك الوقت أو لا ، وكذا إن شهدوا على أصل الحادثة ولم يكن مكتوبا لا تقبل .

وفي خزانة الفقه : يجوز كتاب القاضي إلى القاضي في المصرين ، ومن قاضي مصر إلى قاضي رستاق ، ولا يجوز من قاضي رستاق إلى قاضي مصر انتهى .

والذي ينبغي أن بعد عدالة شهادة شهود الأصل والكتاب لا فرق ، ولو كان العنوان من فلان إلى فلان أو من أبي فلان إلى أبي فلان لا يقبل لأن مجرد الاسم أو الكنية لا يتعرف به إلا أن تكون الكنية مشهورة مثل أبي حنيفة وابن أبي ليلى ، وكذلك النسبة إلى أبيه فقط مثل عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وقيل تقبل الكنية المشهورة كأبي حنيفة على رواية أبي سليمان ، ولا تجوز في سائر الروايات لأن الناس يشتركون في الكنى غير أن بعضهم يشتهر بها فلا يعلم المكتوب إليه أن المكني هو الذي اشتهر بها أو غيره ، بخلاف ما لو كتب إلى قاضي بلدة كذا فإنه في الغالب يكون واحدا فيحصل التعريف بالإضافة إلى محل الولاية ، ولم يشترط أبو يوسف العنوان أيضا بل إذا لم يكن معنونا وكان مختوما وشهدوا بالختم كفى .

( قوله وإذا وصل إلى القاضي لم يقبله إلا بمحضر من الخصم ) وفي بعض النسخ : لم يفتك إلا بمحضر من الخصم كما ذكرنا فيما تقدم ، والمراد أنه لا يقرؤه إلا بحضوره لا مجرد قبوله فإنه لا يتعلق به حكم ، وترتيب الحال أنه إذا وصل المدعي إلى القاضي جمع بينه وبين خصمه ، فإن اعترف استغنى عن الكتاب ، وإن أنكر قال له هل لك حجة ، فإن قال معي كتاب القاضي إليك طالبه بالبينة عليه ، فإذا حضروا أحضر خصمه إن لم يكن حاضرا فيشهدون بحضرته أنه كتاب القاضي سلمه إلينا في مجلس حكمه وقرأه علينا فحينئذ افتكه وقرأه عليه ، وإنما لم يقرأه إلا بحضوره ( لأنه ) أي الكتاب في المعنى ( بمنزلة الشهادة ) على الشهادة لأن القاضي ينقل ألفاظ الشهود بكتابه إلى المكتوب إليه كما أن شاهد الفرع ينقل شهادة شاهد الأصل بعبارته ( بخلاف القاضي الكاتب ) فإنه يسمع من الأصول الشهادة وإن كان الخصم المدعى عليه غائبا ( لأن سماعه ليس للحكم بل للنقل ) فكان سماعه بمنزلة تحمل الفرع لشهادة الأصل ، وفي التحمل [ ص: 294 ] لا يشترط حضور الخصم كذا هذا ، وهذا كله قول أبي حنيفة ومحمد ، وقد علمت أن قول أبي يوسف الاكتفاء بشهادة أنه كتابه وختمه ( ولم يشترط في الكتاب ظهور العدالة ) في شهود الكتاب ( للفتح ) حيث قال فإذا شهدوا إلخ فتحه ولم يقل فإذا شهدوا وعدلوا . قال المصنف ( والصحيح أنه يفض الكتاب بعد ثبوت العدالة ، ذكره الخصاف ) واحترز به عما ذكر في المغني فإنه قال فيه : وذكر الخصاف لا يفتح قبل ظهور العدالة ، ثم قال : ما ذكر محمد أصح : أي تجويز الفتح قبل ظهورها بعد الشهادة بأنه كتابه . ووجهه المصنف بما ذكره الخصاف .

[ ص: 295 ] من أنه ربما يحتاج إلى زيادة الشهود بأن ارتاب في هؤلاء فيقول زدني شهودا ، ولا يمكن أداء الشهادة من المزيدين إلا حال قيام الختم .

[ فرع ]

لو سمع الخصم بوصول كتاب القاضي إلى قاضي بلده فهرب إلى بلدة أخرى كان للقاضي المكتوب إليه أن يكتب إلى قاضي تلك البلدة بما ثبت عنده من كتاب القاضي ، فكما جوزنا للأول الكتابة نجوز للثاني والثالث وهلم جرا للحاجة .

ولو كتب فلم يخرج من يده حتى رجع الخصم لم يحكم عليه بتلك الشهادة التي سمعها من شهود الكتاب ، بل يعيد المدعي شهادتهم لأن سماعه الأول كان للنقل فلا يستفيد به ولاية القضاء وإنما يستفيدها لو كان الخصم حاضرا وقت شهادتهم ( وإنما يقبله المكتوب إليه ) هذا شرط آخر لقبول الكتاب والعمل به ، وهو أن يكون القاضي الكاتب على قضائه إلى أن يمضي أمر الكتاب ، فلو أنه مات أو عزل قبل أن يصل إلى المكتوب إليه أو خرج عن أهلية القضاء بجنون أو عمى ، قالوا أو فسق ، وإنما يتخرج على القول بالعزل بالفسق بطل الكتاب قال أبو يوسف والشافعي : يعمل به ، وبه قال أحمد لأن كتاب القاضي إلى القاضي كالشهادة على الشهادة ، لأنه ينقل به شهادة الذين شهدوا عنده إلى المكتوب إليه ، والنقل قد تم بالكتابة فكان كشهود الفرع إذا ماتوا بعد أداء الشهادة قبل القضاء أو مات الأصل بعد أداء الفرع فإنه لا يمنع القضاء .

وحاصل الجواب في الذخيرة منع تمام النقل بمجرد القضاء بل حتى يصل ويقرأه ، لأن هذا النقل بمنزلة القضاء ، ولهذا لا يصح إلا من القاضي فلا يتم إلا بوجوب القضاء ولا يجب إلا بقراءته ; وبهذا تبين أن العبارة الجيدة أن يقال لو مات قبل قراءة الكتاب لا قبل وصوله ، لأن وصوله قبل ثبوته عند المكتوب إليه وقراءته لا يوجب عليه شيئا فقول المصنف ( التحق بواحد من الرعايا ) يعني قبل تمام القضاء ( ولهذا لا يقبل إخباره قاضيا آخر ) غير المكتوب إليه ( في غير عمله أو غير عملهما ) ولو كان على قضائه لأنه بالنسبة إلى العمل الآخر كواحد من الرعايا غير أن الكتاب خص من ذلك بالإجماع ، ولو مات بعد وصول الكتاب وقراءته عمل به المكتوب إليه ، هكذا ذكر في ظاهر الرواية .

( وكذا لو مات المكتوب إليه ) أو عزل وولي غيره لا يعمل الذي قام مقامه عندنا ( إلا إذا ) كان ( كتب إلى فلان قاضي بلد كذا وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين لأن غيره صار تبعا له ) وقد قدمنا ما هنا ، وقال الشافعي وأحمد : يعمل به لأن المعول عليه شهادة الشهود على ما تحملوه ، ومن تحمل وشهد وجب على كل قاض الحكم بشهادته وصار [ ص: 296 ] كما لو كتب وإلى كل قاض وصل إليه . وأجيب بأن الكاتب لما خص الأول بالكتابة فقد اعتمد عدالته وأمانته ، والقضاة متفاوتون في أداء الأمانة فصح التعيين ، بخلاف ما إذا أردفه بقوله وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين لأن هناك اعتمد على علم الكل وأمانتهم فكأن الكل مكتوب إليهم معينين . أما لو كتب ابتداء إلى كل من يصل إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين وحكامهم فقدمنا أنه أجازه أبو يوسف وهو مذهب الشافعي وأحمد ومنعه أبو حنيفة ، والظاهر أن محمدا مع أبي حنيفة . والوجه قول أبي يوسف لأن إعلام المكتوب إليه وإن كان شرطا فالعموم يعلم كما يعلم الخصوص وليس العموم من قبيل الإجمال والتجهيل فصار قصديته وتبعيته سواء .

( ولو مات الخصم ينفذ الكتاب على وارثه لقيامه مقامه ) سواء كان تاريخ الكتاب قبل موت المطلوب أو بعده ولا خلاف فيه .




الخدمات العلمية