الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وحكم بما يتميز غائبا بالصفة : كدين

التالي السابق


( وحكم ) القاضي ( بما ) أي بشيء أو الشيء الذي ( يتميز ) عن غيره حال كونه [ ص: 374 ] غائبا ) عن بلد القضاء وصلة يتميز ( بالصفة ) كرقيق وحيوان وكتاب وثوب ، ومفهومه أن ما لا يتميز بالصفة كالحرير والحديد لا يحكم به غائبا بالصفة وهو كذلك ، وإنما تشهد البينة بقيمته ويحكم بها المدعية . الخرشي والمعنى أن المحكوم به إذا كان غائبا عن بلد الحكم وهو مما يتميز بالصفة في غيبته كالعقار والعبيد والدواب ونحوهم ، فإنه لا يطلب حضوره مجلس الحكم ، بل تميزه البينة بالصفة ويصير حكمه كدين على المشهور وإن كان لا يتميز بالصفة كالحديد والحرير ، فإن البينة تشهد بقيمته ويحكم بها لمدعيه فالغائب عن البلد لا يشترط حضوره مطلقا ، لأنه إن أمكن وصفه قام وصفه مقام حضوره ، وإن لم يمكن وصفه قامت قيمته مقام وصفه ، ولا فرق في ذلك بين المقوم والمثلي ، وإنما اعتبرت القيمة في المثلي لجهل صفته وإماما في البلد فلا بد من إحضاره مجلس الحكم ، وسواء كان مما يتميز بالصفة أم لا ونحوه لعب العدوي قوله فلا بد من إحضاره مجلس الحكم ليس بشرط فالمناسب لا بد من الشهادة على عينه كما أفاده بعض من حقق ( كدين ) .

تت اختلف الشارحان في تقريره ، فقال الشارح إن المحكوم به إن كان مما يتميز بالصفة في غيبته كالعبد والدابة ونحوهما فلا يطلب حضوره ، بل تميز البينة بالصفة ويصير حكمه حكم الدين وهو المشهور . وقال البساطي ليس المراد إفادة الحكم ، وإنما المراد كما يحكم بالدين المتميز بالصفة بمعنى لا فرق .

طفي فهم تت أن تقرير الشارح مخالف لتقرير البساطي ، وليس كذلك ، بل هما متفقان على أن الدين يتميز بالصفة ، فمعنى قول الشارح فيصير حكمه حكم الدين ، أي في تمييزه بالصفة إذ الدين يتعين تمييزه بالصفة ولا يمكن فيه غيره لكونه في الذمة ، وإنما الخلاف في المعينات كالعبد والدابة هل لا بد من الشهادة على عينها وهو قول ابن كنانة أو يكفي الوصف وهو مذهب المدونة ، وعبارة الشارح لا يطلب حضوره ، بل تميزه البينة بالصفة ويكون حكمه حكم الدين . وقال في شامله ويحكم في غائب يتميز بصفة دينا أو غيره كفرس وعبد ، فهذا يدل على أن مراده ما قلناه وهو مراد أهل المذهب [ ص: 375 ] بذكر الدين هنا . وفي الجواهر المحكوم به ، وذلك لا يخفى في الدين ، وكذلك العقار الذي يمكن تعريفه بتحديده أما العبد والفرس وما يتميز بعلامة فقال ابن القاسم وسحنون يحكم فيه بذلك إن كان غائبا . وقال ابن كنانة لا يحكم فيه بذلك ا هـ . ونحوه لابن الحاجب .

قال ابن هارون معناه أن المحكوم به إذا كان غائبا هل يعتمد على الصفة في القضاء به أم لا ، فمن ذلك الدين والأمر فيه واضح ، إذ لا يتأتى فيه إلا أن يكون موصوفا ، ومنها العبد والأمة والفرس ونحوها مما يتميز بالصفة ، وهذا قول ابن القاسم وسحنون يحكم فيه بالصفة إن كان غائبا خلافا لابن كنانة ، والأول مذهب المدونة ، فقد ظهر لك من هذه النقول الاتفاق على أن الدين يتميز بالصفة وهو مراد المصنف بقوله كالدين وفهم تت من قول الشارح يصير حكمه حكم الدين أي في لزومه ، وليس المراد أن الدين يحكم فيه بالصفة ، وهذا فهم ركيك ، إذ لا معنى لقوله حينئذ كالدين ، فإن أراد أنه يصير لازما له بعد وصفه في ذمته ففيه نظر ، إذ المعينات لا تقوم بالذمة ولا تكون في ضمانه ، إذ بالحكم ينتقل الضمان للمحكوم له ، واستدل في كبيره على فهمه بقوله قال ابن عبد السلام في قول ابن الحاجب ويحكم بالدين وغيره مما يتميز غائبا بالصفة كالعبد والفرس ، قوله غائبا بالصفة راجع إلى غير الدين وحده لا إلى جميع ما تقدم ونحوه قول الشارح ، فذكر كلام الشارح الذي ذكره في صغيره ، ففهم من كلام عبد السلام أن الدين لا يوصف فأداه ذلك إلى ما ذكره من الاختلاف بين تقريري الشارحين ، وقد حرف في نقله كلام ابن عبد السلام ، ونص كلامه لا شك أن قيد الغيبة من قول المصنف مما يتميز غائبا راجع إلى غير الدين وحده لا إلى جميع ما تقدم منه ، ومراد ابن عبد السلام أن قيد الغيبة في غير الدين . أما هو فهو غائب على كل حال لأنه في الذمة ، فاشتراط قيد الغيبة فيه ضائع .

ثم قال ابن هارون فإن قلت إذا كان الحكم بالصفة عند ابن القاسم جائزا ، فلم أجاز للمستحق منه الذهاب بها إلى بلد البائع لتشهد البينة على عينها ، وكان يجب على أصله أن [ ص: 376 ] يقضي له على بائعه برد الثمن إذا شهدت له البينة أن الأمة التي باعها له موافقة للصفة التي في كتاب القاضي قلت يحتمل أنه إنما يجوز له الذهاب بها لبلد البائع لأن قاضيه قد يكون معه لا يرى الحكم بالصفة ا هـ . ابن عرفة يرد جوابه بأن ظاهر أقوال متقدمي أهل المذهب ومتأخريهم وجوب إجابة المستحق من يده إلى إسعافه بخروجه بالمستحق منه إلى بلد بائعه بشروط مقررة في آخر مسائل الاستحقاق ليس لاحتمال كون المكتوب إليه ممن لا يرى الحكم بالصفة ، لأنهم ذكروا الكتب والحكم بخروجه بين قضاة الأندلس وكورها حسب ما ذكره ابن سهل وابن رشد وغيرهما ، والمعلوم من حال قضاتهم الحكم بالصفة .

والجواب عن توهم السؤال المذكور أن وجوب إسعافه بالخروج به إنما هو لتحصيل موجب رجوعه على بائعه بثمنه لأنه لا يجب له الرجوع عليه بمجرد بينة الاستحقاق لأنها لا تضمن كون المستحق من يده اشترى المستحق ، ولم تعين من بائعه له فوجب حينئذ على المستحق منه إقامة البينة بأن ما استحق منه ابتاعه من فلان الذي طلبه بثمنه والبينة بابتياعه منه مع حضور المستحق متيسرة غير متعسرة لأن الإنسان إذا عاين المبيع عرفه وأمكن أن يشهد بأنه الذي ابتاعه المستحق منه ممن طلب ثمنه منه وإن كان غائبا وافتقر إلى البينة بأنه ابتاعه من الذي طلبه بثمنه تعسر عليه إقامة البينة بذلك لجواز ذهول من حضر معه على شرائه ممن طلبه بثمنه عن صفته الخاصة به لغيبته عنه ، وعدم ضبط صفته حين الشراء وهو لو حضر علم أنه المشتري والمصنف يجد علم هذا من نفسه ، فلم يحكم له بخروجه به لبلد بائعه أدى إلى ضرره بذهاب ثمنه وجوابه مع بعده قاصر على السؤال المذكور .

وأما الجواب عن قولها ومن ادعى عبدا بيد رجل وأقام شاهدا عدلا يشهد على القطع ، أو أقام بينة يشهدون أنهم سمعوا أنه أبق له عبد مثل الذي ادعاه ، وله بينة قاطعة ببلد آخر فسأل وضع قيمته ليذهب به إلى بينته ليشهدوا عليه عند قاضي ذلك [ ص: 377 ] البلد ، فله ذلك وهي التي أشار لها المصنف بقوله وإن سأل ذو العدل إلخ ، فالظاهر من كلامهم أنه من طلب الحجة وإن كانت الشهادة على الغائب بالوصف والحكم بها جائزان والله أعلم .

ابن عرفة وإن كان غائبا عنها وليس معينا بنفسه ، بل بالإضافة وهو الدين فالاعتبار في الإشهاد به مع غيبته بتخصيص المدين بما يعينه تقدم لابن رشد في سماع عبد الملك تكتب للقاضي بما يثبت عنده من صفة الآبق كما يكتب في الدين على الغائب باسمه ونسبه وصفته ، فتقوم الشهادة فيه على الصفة مقام الشهادة على العين ، هذا قول عبد الملك وجميع أصحابه إلا ابن كنانة ، فإنه لم يجز في شيء من ذلك الشهادة على الصفة وأجازها ابن دينار في الدين لا الآبق .

قلت فظاهره أن ابن كنانة لم يجزها في الدين . المازري يقضي بالبينة المتعلقة بصفة المحكوم به إن كان ربعا لأن من صفته تجليته بمحله ومكانه وهو لا ينتقل . وفي الحكم بها في غيره من حيوان وشبهه قولان على الأول ينفذ القاضي المكتوب إليه ببلد البينة الحكم على المشهود عليه بها ، وعلى الثاني يحكم له بأخذ المدعى فيه بوضعه قيمته ليذهب به لمحل البينة لتشهد على عينه عند القاضي ، فيحكم له به ويسترجع قيمته .

ثم قال ابن عرفة وقال المازري إن كان المحكوم به مما لا يتميز أصلا ذكر البينة قيمته تقول غصبه حريرا قيمته كذا أو طعاما قيمته كذا . قلت هذا فيما يتعلق بالذمة ، وأما ما لا يتعلق بها فظاهر كلام ابن رشد أن المكيل والموزون لا تصح البينة به بعد غيبته لتعذر معرفته بعد حضوره ، فتمتنع الشهادة به غائبا على الصفة ، وتمام هذا المعنى في مسائل الاستحقاق وإن كان غائبا معينا بنفسه كالعبد والفرس ، فإن كانت البينة بما يستحق لا من يد مدع ملكه ولا مدعيا حرية نفسه سمعت في غيبته بكمال صفته الموجبة تعينه عند مشاهدته اتفاقا إن لم يكن عبدا آبقا وإن كانه ففي سماعها ومنعه قولها مع جل أصحاب مالك وابن رشد عن ابن دينار مع ابن كنانة وإن كانت بما يستحق من يد مدع ملكه أو مدعيا حرية نفسه ، ففي سماعها به ومنعه قولان ، لاختصار الواضحة [ ص: 378 ] لفضل ، عن سحنون قائلا لا أعلم خلافه لأحد من أصحابنا غير ابن كنانة وفضل عن ابن دينار معه .

وللشيخ عن ابن القاسم في المجموعة لو ادعى عبدا بيد رجل والعبد غائب فيقيم البينة فيه ، أو كان حيوانا أو متاعا بعينه أقام فيه بينة قبلت إذا وصفوا ذلك وعرفوه وحلوه ويقضى له به . قال ولو شهدت بينة على غائب بأنه سرق فقدم وغاب الشهود أو حضروا حكم عليه وليس عليه إعادتها إذا استأصل تمام الشهادة .




الخدمات العلمية