الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        استدل أصحابه على أن الميت ينتفع بفعل الأحياء على الإطلاق:

        1- قوله تعالى: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم .

        2- قوله تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم .

        3- وقوله تعالى: واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا .

        فهذه الآيات وما يماثلها تدل دلالة واضحة على أن الدعاء والاستغفار مأمور به، ولو لم يكن نافعا للمدعو له ما أمر به، فظهر جليا أن الأموات ينتفعون بالدعاء والاستغفار لهم من المسلمين بعد موتهم.

        (313) 4- ما رواه أحمد من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل، عن أبي [ ص: 191 ] سلمة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ضحى اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين، قال: فيذبح أحدهما عن أمته ممن أقر بالتوحيد وشهد له بالبلاغ، ويذبح الآخر عن محمد وآل محمد.

        [ ص: 192 ] وجه الدلالة من هذا الحديث: قوله -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم منك، ولك، عن محمد، وأمته».

        فقوله: (وأمته) تشمل الحي والميت، وقد ضحى عنهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فدل على جواز النيابة في العبادات المالية، حيث جعل -صلى الله عليه وسلم- إحدى الأضحيتين لأمته.

        حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إن أمي افتلتت نفسها، ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أولها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم».

        وجه الدلالة: هذا الحديث فيه دلالة ظاهرة على انتفاع الميت من صدقة الحي عنه، وذلك في جوابه -صلى الله عليه وسلم- للسائل بقوله: نعم.

        (314) 6- أن رجلا سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «كان لي أبوان أبرهما حال حياتهما، فكيف لي ببرهما حال موتهما؟ فقال له -صلى الله عليه وسلم-: «إن من البر بعد الموت أن تصلي لهما مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك».

        [حديث معضل مرسل].

        وجه الدلالة من هذا الحديث: دل الحديث على أن من البر للميت أن [ ص: 193 ] يصلى له، ويصام له، والحديث مطلق لم يفرق بين صوم واجب أو نفل، وكذلك بين صلاة واجبة أو نفل، بل ظاهر في نقل الصلاة والصوم، فهو محل النزاع، فيصار إليه.

        (3135) 7- حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنا نتصدق عن موتانا ونحج عنهم وندعو لهم، فهل يصل ذلك إليهم؟ قال: نعم إنه ليصل إليهم، وإنهم ليفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهدي إليه».

        8- الإجماع: فقالوا: إن المسلمين في كل مصر يقرؤون، ويهدون لموتاهم من غير نكير، فكان إجماعا.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:

        الأول: أن المسألة خلافية كما سبق من ذكر الأقوال.

        الثاني: أن ما ذكر من حكاية الإجماع نص فيه على القراءة فقط دون غيرها.

        والكلام عام في جميع القرب التي يفعلها الحي، ويهدي ثوابها للميت فأين محل الإجماع؟!

        الثالث: يمكن الاعتذار عن حكاية الإجماع هنا بأن المراد به الإجماع في المذهب الحنبلي، وهذا عين الحقيقة والواقع; إذ المذهب يرى أن الميت ينتفع بجميع القرب، والأصحاب مجمعون على ذلك.

        9 - أن الثواب عوض مقدر كالمال، والمال تجوز هبته، فكذلك الأجر [ ص: 194 ] والثواب على العبادات تجوز هبته، فتصير أدلة جواز الهبة في الأموال وتوابعها أدلة لجواز هبة الثواب، لا يصح فيها غير ذلك.

        فإذا كان ذلك كذلك صح وجود الدليل، فلم يبق للمنع وجه.

        10 - أن جزاء الأعمال وثوابها مملوك للعامل، وهو إن لم يجزه الآن ثابت له عند الله -عز وجل- إذ لم يلزم من الملك الحوز، وبيان ذلك: أن الجزاء من الأعمال كالمسببات مع الأسباب، وكالتابع مع المتبوعات، وهذا يقضي بصحة ملك العامل للثواب، وإذا ملكه جاز له أن يتصرف فيه بهبته لأخيه المسلم تفضلا وكرما.

        أدلة القول الثاني: (المنع):

        1- قوله تعالى: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى

        وجه الدلالة: دلت الآية على أن الإنسان لا ينفعه إلا سعيه، وسعي غيره ليس سعيا له، وعليه فلا ينتفع بصلاة غيره وحجه، ونحو ذلك.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:

        الأول: أن هذه الآية بظاهرها وإطلاقها تدل على أن الإنسان لا ينتفع بسعي غيره، لكن هذا مقيد بأدلة القول الأول الدالة على انتفاع الميت بسعي الحي.

        الثاني: أن هذه الآية منسوخة بما تقدم من الأدلة التي دلت على انتفاع الإنسان بسعي غيره.

        وأجيب عن هذا: بعدم التسليم; لما يلي:

        أولا: أن الآية من قبيل الأخبار، والخبر لا يصح نسخه.

        [ ص: 195 ] ثانيا: أن الجمع ممكن، وإذا أمكن الجمع فالمصير إليه.

        ثالثا: أن معنى الآية: ليس للإنسان إلا ما سعى عدلا، وله ما سعى غيره فضلا.

        رابعا: أن اللام في قوله تعالى: للإنسان : يعني: على; لقوله تعالى: أولئك لهم اللعنة أي: عليهم.

        ورد: بأن هذا بعيد عن ظاهر الآية، والسياق يأباه; إذ هي وعظ للإنسان الذي تولى، وأعطى قليلا وأكدى.

        كما أن اللغة لا تحتمله، فلا يعرف في اللغة: لي درهم بمعنى: علي درهم.

        2- قوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت

        فدلت الآية بمنطوقها على أن الإنسان له ما كسب، ويفهم من ذلك أنه ليس له ما كسب غيره.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن نفي انتفاع الإنسان بفعل غيره دلالة بالمفهوم، وقد خالفه منطوق الأدلة الدالة على انتفاع الإنسان بسعي غيره.

        3- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».

        فدل الحديث على أن الميت لا ينتفع إلا بهذه الأمور الثلاثة، وعليه فلا فائدة في إهداء ثواب الأعمال; لعدم ذكرها في الحديث.

        [ ص: 196 ] ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:

        الوجه الأول: أن انتفاعه بعمل غيره ليس في الحديث تعرض له لا بنفي ولا بإثبات، فيستفاد من أدلة أخرى.

        الوجه الثاني: أنكم سلمتم بانتفاع الميت بأعمال لم ترد في الحديث كالصدقة عنه، والاستغفار، ونحو ذلك.

        4- أن الهبة صحيحة شرعا في شيء مخصوص وهو المال، وأما ثواب الأعمال، فلا يصح هبته لعدم الدليل.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه استدلال في محل النزاع، وأيضا جوزتم هبة ثواب بعض الأعمال، فلم تمنعون البعض الآخر؟!

        5- أن الثواب على الأعمال تفضل من الله تعالى على عباده، وإذا كان كذلك اقتضى أنه ليس للعامل فيه نظر ولا اختيار، وعليه فلا يصح تصرفه فيه.

        ونوقش هذا الاستدلال: بعدم التسليم، بل له فيه ملك وتصرف; لما تقدم من أدلة القول الأول.

        6- أن نفع الأعمال لا يتعدى فاعلها، فلا يتعدى ثوابها.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:

        الأول: عدم التسليم.

        الثاني: لو سلمنا بذلك جدلا لبطل بالدعاء والصدقة ونحوهما مما سلمتم وصول ثوابه.

        الثالث: أن هذا استدلال بمحل النزاع.

        [ ص: 197 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية