الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الأمر الثاني: أن يكون فقيرا:

        إذا كان فقيرا، فقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في ملكه الأكل من مال [ ص: 327 ] اليتيم على قولين:

        القول الأول: أنه يملك ذلك.

        وهو قول الجمهور، فهو قول للحنفية، ومذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة.

        وحجته:

        1- قوله تعالى: ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف

        وقد تقدمت آثار الصحابة -رضي الله عنهم- في ذلك، وأن الآية نزلت في ولي اليتيم يستعفف إذا كان غنيا، ويأكل بالمعروف إذا كان فقيرا.

        ونوقش الاستدلال بهذه الآية من وجوه:

        الوجه الأول: أن هذه الآية نسختها الآية التي تليها إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما.

        وقيل: إن الناسخ قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم .

        وأجيب عن هذا الوجه بجوابين:

        الأول: أن الوارد عن ابن عباس - رضي الله عنهما- ضعيف، وعلى فرض ثبوته، فهو مخالف لما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- بجواز الأكل للفقير.

        [ ص: 328 ] الثاني: أنه لا يصار إلى النسخ إلا مع التعارض بين الدليلين، وعدم إمكان الجمع، قال ابن العربي: «أما من قال: إنه منسوخ، فهو بعيد لا أرضاه; لأن الله تعالى يقول: فليأكل بالمعروف وهو الجائز الحسن، وقال: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما فكيف ينسخ الظلم المعروف؟!

        بل هو تأكيد له في التجويز; لأنه خارج عنه مغاير له، وإذا كان المباح غير المحظور لم يصح دعوى نسخ فيه، وهذا أبين من الإطناب».

        الوجه الثاني: أن المراد بالآية أن يأكل الولي من مال نفسه بالمعروف حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم.

        كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما.

        وأجيب عن هذا الوجه بجوابين:

        الأول: أنه مخالف لتفسير غيره من الصحابة -رضي الله عنهم- للآية، ومخالف لما ورد عن ابن عباس نفسه، قال ابن النحاس: «واختلف عن ابن عباس في تفسير الآية اختلافا كثيرا على أن الأسانيد عنه صحاح».

        الثاني: أنه لو كان هذا معنى الآية لما احتيج إلى ذكره لكونه ظاهرا.

        الوجه الثالث: أن المراد بالآية إن كان غنيا وسع عليه، وإن كان فقيرا أنفق عليه بقدره.

        [ ص: 329 ] ونوقش: هذا الوجه بما نوقش به الوجه السابق، وأيضا فإن اليتيم يأكل بالمعروف سواء كان غنيا أو فقيرا بخلاف الولي، فتبين أن الخطاب للولي.

        وأيضا كما قال ابن العربي: «إن الخطاب لا يصلح أن يكون له; لأنه غير مكلف ولا مأمور بشيء.

        (334) 2- ما رواه أبو داود من طريق حسين -يعني: المعلم- عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنهم «أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم، فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف، ولا مبادر ولا متأثل».

        ونوقش الاستدلال بهذا الحديث: بأنه محمول على ما إذا عمل الولي في مال اليتيم مضاربة، فله الأخذ مقدار ربحه.

        وأجيب: بأنه تقييد لمطلق الحديث، ولا دليل على ذلك.

        [ ص: 330 ] 3- قول عمر -رضي الله عنه-: «ألا إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة الولي من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف».

        (335) 4- ما رواه الطبري من طريق ليث، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال في قوله تعالى: ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف من مال نفسه، ومن كان فقيرا منهم إليها محتاجا، فليأكل بالمعروف».

        ويأتي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن المراد أكل الولي.

        5- وتقدم عن عائشة قريبا.

        القول الثاني: أنه لا يجوز الأكل من مال اليتيم مطلقا، لا فقيرا ولا غيره.

        وهو مذهب الحنفية، وبه قال ابن حزم.

        وحجة هذا القول:

        1- قوله تعالى: وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا وقال تعالى: فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا وقال تعالى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن [ ص: 331 ] وقوله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما وقوله تعالى: وأن تقوموا لليتامى بالقسط وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم

        وجه الدلالة: قال الجصاص: «وهذه الآي محكمة حاضرة لمال اليتيم على وليه في حال الغنى والفقر، وقوله تعالى: ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف متشابه محتمل للوجوه التي ذكرنا، فأولى الأشياء بها حملها على موافقة الآي المحكمة، وهو أن يأكل -أي: الولي- من مال نفسه بالمعروف; لئلا يحتاج إلى مال اليتيم; لأن الله تعالى قد أمرنا برد المتشابه إلى المحكم، ونهانا عن اتباع من غير رد إلى المحكم...».

        ونوقش الاستدلال من وجهين:

        الوجه الأول: أن هذه الآيات عامة في الحظر من مال اليتيم، والمبيحة لأكل الفقير خاصة، والخاص مقدم على العام.

        الوجه الثاني: عدم التسليم على أن أدلة جواز الأكل من مال اليتيم من المتشابه، بل من المحكم البين، كما ورد تفسير الآية عن الصحابة رضي الله عنهم.

        2- قوله تعالى: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى

        [ ص: 332 ] وجه الدلالة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ الخمس من مال المسلمين، فالوصي فيما يتولاه من مال اليتيم كذلك.

        ونوقش: بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ من مال الفيء; لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إلا الخمس».

        (336) 3- ما رواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار من طريق رجل، عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: «لا يأكل الوصي من مال اليتيم قرضا ولا غيره».

        ولكنه ضعيف لا يثبت.

        4- أن دخول الوصي في الوصية على وجه التبرع من غير شرط أجرة كان بمنزلة المستبضع، فلا أجرة له كالمستبضع.

        ونوقش هذا الاستدلال: أن ما يأكله الولي من مال اليتيم ليس أجرة، وإنما رخصة من الله -عز وجل- مقابل قيامه على ماله.

        الترجيح:

        الراجح -والله أعلم- قول جمهور أهل العلم; إذ هو ظاهر القرآن الكريم، والقاعدة: أن جميع ظواهر نصوص القرآن مفهومة لدى المخاطبين، فتبقى الآية على ظاهرها، وبهذا فسر الصحابة -رضي الله عنهم- الآية.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية