الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الأول: ابتلاء اليتيم ونحوه

        قال الله -سبحانه وتعالى-: وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح .

        أمر الله الأولياء والأوصياء بابتلاء اليتيم، ومد هذا الابتلاء إلى بلوغ النكاح.

        [ ص: 350 ] معنى الابتلاء:

        الابتلاء في اللغة: الاختبار والامتحان.

        (342) ما رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: وابتلوا اليتامى يعني: اختبروا اليتامى عند الحلم.

        قال ابن كثير: «وقوله تعالى: وابتلوا اليتامى قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، والسدي، ومقاتل بن حيان: أي: اختبروهم حتى إذا بلغوا النكاح قال مجاهد: يعني الحلم».

        كيفية الاختبار:

        اختلف العلماء في كيفية الاختبار على ثلاثة أقوال:

        القول الأول: إن اختبار اليتيم يكون بتفويض التصرفات التي يتصرف فيها أمثاله، ويتحقق ذلك بالإذن له بالتجارة وما يتعلق به، فإذا تكررت منه فلم يغبن ولم يضيع ما في يده، فهو رشيد، فيدفع إليه ماله بعد بلوغه.

        وأما اختبار اليتيمة: فبأن يفوض إليها إلى ما يفوض إلى ربة البيت من استئجار الغزالات، وتوكيلها في شراء الكتان، وأشباه ذلك، فإن وجدت ضابطة لما في يدها مستوفية من وكيلها، فهي رشيدة، يدفع إليها مالها بعد بلوغها، وإلا فلا.

        وبه قال الحنفية والحنابلة.

        [ ص: 351 ] قال الكاساني: «والابتلاء هو الإظهار، فابتلاء اليتيم إظهار عقله بدفع شيء من أمواله إليه; لينظر الولي أنه هل يقدر على حفظ أمواله عند النوائب، ولا يظهر ذلك إلا بالتجارة، فكان الأمر بالابتلاء إذنا بالتجارة، ولأن الصبي إذا كان يعقل التجارة يعقل النافع من الضار، فيختار المنفعة على المضرة ظاهرا، فكان أهلا للتجارة كالبالغ».

        وفي الشرح الكبير لابن قدامة: «أي: اختبروهم، واختباره بتفويض التصرفات التي يتصرف فيها أمثاله إليه، فإن كان من أولاد التجار فوض إليه البيع والشراء، فإذا تكرر منه فلم يغبن ولم يضيع ما في يديه فهو رشيد، وإن كان من أولاد الدهاقين والكبراء الذين يصان أمثالهم عن الأسواق دفعت إليه نفقة مدة لينفقها في مصالحه، فإن صرفها في مصارفها ومواقعها واستوفى على وكيله فيما وكله، واستقصى عليه، دل على رشده.

        والمرأة يفوض إليها ما يفوض إلى ربة البيت من استئجار الغزالات، وتوكيلها في شراء الكتان، وأشباه ذلك، فإن وجدت ضابطة لما في يديها مستوفية من وكيلها فهي رشيدة».

        القول الثاني: أن الاختبار هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه ويستمع إلى أغراضه، فيحصل له العلم بنجابته، والمعرفة بالسعي في مصالحه وضبط ماله، أو الإهمال لذلك، فإذا توسم الخير فلا بأس أن يدفع إليه شيئا من ماله، ويكون يسيرا، ويبيح له التصرف فيه، فإن نماه وأحسن النظر فيه، فقد وقع الاختبار، فليسلم إليه ماله جميعه، وإن أساء النظر فيه، وجب عليه إمساك ماله عنه.

        وبه قال المالكية.

        [ ص: 352 ] وفي منح الجليل: «وفي المعونة: لولي السفيه أو الصغير دفع مال له يختبره به، اللخمي: يريد بالصغير الذي قارب البلوغ إن رأى دليل رشده، ومقتضى كلام المتيطي وغيره من الموثقين أنه المذهب، قال: للوصي أن يدفع ليتيمه بعض ماله يختبره به».

        قال ابن العربي: «كيفية الابتلاء: وهو بوجهين:

        أحدهما: يتأمل أخلاق يتيمه، ويستمع إلى أغراضه، فيحصل له العلم بنجابته، والمعرفة بالسعي في مصالحه، وضبط ماله، أو الإهمال لذلك، فإذا توسم الخير قال علماؤنا: لا بأس أن يدفع إليه شيئا من ماله، وهو الثاني، ويكون يسيرا، ويبيح له التصرف فيه; فإن نماه وأحسن النظر فيه فقد وقع الاختيار، فليسلم إليه ماله جميعه، وإن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك ماله عنه».

        القول الثالث: وذهب الشافعية إلى أن الاختبار يكون في الدين والمال.

        أما في الدين: فبمشاهدة حاله في العبادات، وتجنب المحظورات، وتوقي الشبهات، ومخالطة أهل الخير.

        وأما في المال: فإنه يختلف باختلاف المراتب، فيختبر ولد التاجر بالبيع والشراء والمماكسة فيهما، فإذا أراد العقد عقد له الولي، وإذا اختبر له بالتجارة كفى، ولا يحتاج إلى الاختبار في جميعها، وولد السوقة كولد التاجر.

        [ ص: 353 ] ويختبر ولد الزراع بالزراعة والنفقة على القوام بها، أي: إعطاؤهم الأجرة، والقوام: هم الذين استؤجروا على القيام بمصالح الزرع، كالحرث والحصد والحفظ.

        ويختبر المحترف بما يتعلق بحرفة أبيه وأقاربه، فيختبر ولد الخياط مثلا بتقدير الأجرة، وولد الأمير ونحوه: بأن يعطى شيئا من ماله لينفقه في مدة شهر في خبز ولحم ونحوه، ويختبر من لا حرفة لأبيه بالنفقة على العيال.

        وتختبر الجارية بما يتعلق بالغزل والقطن من حفظ وغيره، وصون الأطعمة عن الهرة والفأرة والدجاجة; لأن بذلك يتبين الضبط، وحفظ المال، وعدم الانخداع، وذلك قوام الرشد.

        ويشترط تكرار الاختبار مرتين وأكثر، بحيث يغلب على الظن رشده، فلا يكتفى بالمرة; لأنه قد يصيب فيها اتفاقا.

        وفي الإقناع للشربيني: «ويختبر رشد الصبي في الدين والمال ليعرف رشده وعدم رشده قبل بلوغه; لآية وابتلوا اليتامى واليتيم إنما يقع على غير البالغ فوق مرة بحيث يظن رشده، فلا تكفي المرة; لأنه قد يصيب فيها اتفاقا.

        أما في الدين فبمشاهدة حاله في العبادات بقيامه بالواجبات، واجتنابه المحظورات والشبهات».

        وفي أسنى المطالب: «(فرع: لا بد من الاختبار) لرشد الصبي في المال ليعرف رشده وعدم رشده (فليختبر ولد التاجر في المماكسة) في البيع والشراء بأن ينقص عما طلبه معامله أو بزيادة عليه (وولد الزراع) وفي نسخة الزارع [ ص: 354 ] (في الإنفاق على القوام بها) وهم الذين استؤجروا على القيام بمصالح الزرع كالحرث والحصد والحفظ (والمرأة في القطن والغزل) أي: فيما يتعلق بهما من حفظ أو غيره (وصون الأطعمة عن الهرة والفأرة) ونحوهما (وحفظ متاع البيت) وولد الأمير ونحوه في الإنفاق مدة في خبز وماء ولحم ونحوها، وكل ذلك على العادة في مثله (مرات) يعني مرتين فأكثر فلا يكفي مرة; لأنه قد يصيب فيها اتفاقا».

        * * *

        التالي السابق


        الخدمات العلمية