الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولا يرى في الدنيا ؛ تصديقا لقوله عز وجل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار .

التالي السابق


ثم إنهم بعد الجواز اختلفوا هل الوقوع مخصوص بالآخرة؟ وهو قول جماعة وأحد قولي الأشعري، وظاهر قول مالك، وإليه أشار بقوله: (ولا يرى في الدنيا؛ تصديقا لقوله -عز وجل- لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) قال النسفي في شرح العمدة، وتبعه القونوي في أكثر سياقه في شرح عقيدة الطحاوي: ولا تعلق للمعتزلة بهذه الآية؛ لأن الأبصار صيغة جمع، وهي تفيد العموم، فسلبه يفيد سلب العموم، وذلك لا يفيد عموم السلب، فإن قوله: "لا تدركه الأبصار" نقيض لقوله: تدركه الأبصار، وقولنا: تدركه الأبصار نقيض لمن يدركه كل أحد باعتبار الاستغراق الحاصل من الألف واللام، ولما كان نقيض الموجبة الكلية السالبة الجزئية كان معنى الآية: لا يدركه جميع الأبصار، ونحن نقول بموجبه: فإنه لا يراه الجميع؛ فإن الكافرين لا يرونه، بل يراه المؤمنون، ولأن المنفي هو الإدراك دون الرؤية، وهما غيران، فكان نفي الإدراك لا يدل [ ص: 114 ] على نفي الرؤية، وهذا لأن الإدراك هو الوقوف على جوانب المرئي وحدوده، وما يستحيل عليه الإدراك من الرؤية نازل منزلة الإحاطة من العلم، ونفي الإحاطة التي هي نقيض الوقوف على الجوانب والحدود لا يقتضي نفي العلم به، وكذا هنا، ثم مورد الآية، وهو وجه التمدح، يوجب ثبوت الرؤية؛ إذ نفي إدراك ما يستحيل رؤيته لا تمدح فيه؛ إذ كل ما لا يرى لا يدرك، كالمعدومات، وإنما التمدح بنفي الإدراك مع تحقق الرؤية؛ إذ انتفاؤه مع ثبوتها دليل ارتفاع نقيضه، التناهي والحدود عن الذات، فكانت الآية حجة لنا عليهم، ولو أمعنوا النظر في الآية وعرفوا مواقع الحجاج لاغتنموا التقصي عن عهدة الآية. اهـ .



رجع للأول

ومنهم من قال: وقوع الرؤية غير مخصوصة بالآخرة، بل تقع في الدنيا، وهو قول الكثير من السلف والخلف من أهل الحديث والتصوف والنظر، وإذا قلنا بأنه غير مخصوص بالآخرة، فهل هو مخصوص بالأنبياء، أو غير مخصوص؟ بل يجوز للولي قولان للأشعري، وعلى أنه مخصوص بالأنبياء فهل هو خاص بنبينا -صلى الله عليه وسلم- أو غير خاص، وبالجملة فقد اتفق الكل على وقوعها في الآخرة لجميع المؤمنين .

وأما في الدنيا فاختلف فيه -صلى الله عليه وسلم- على ثلاثة أقوال: الأول: أنه رأى ربه، وهو قول أكثر السلف وجماعة الصوفية، قال النووي: وهو الصحيح. الثاني: أنه لم ير، وهو قول أكثر الأشاعرة، وبعض السلف. الثالث: الوقف، وهو اختيار القاضي عياض، وبالجملة فاختلاف الصحابة في هذه المسألة دليل على اعتقادهم جوازها، ثم هل يجوز ذلك لأولياء أمته على سبيل الكرامة وطريق التبعية؟ في ذلك قولان للأشعري، وأكثر أهل التصوف خصوصا المتأخرين على أن ذلك يجوز كرامة، وكرامة أولياء الله تعالى معجزة له -صلى الله عليه وسلم-، هذا حال اليقظة، وأما في النوم فاتفق الأكثر على جوازه ووقوعه، ثم هذا المعتقد، أما جوازه فيصح التمسك فيه بالسمع والعقل، وأما الوقوع فليس إلا بالسمع؛ إذ العقل لا يهتدي .




الخدمات العلمية