الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ونحن نكشف الغطاء عنه ونقول : من جمع بين هذه الثلاثة فلا خلاف في أن مستقره الجنة وهذه درجة .

الدرجة الثانية أن يوجد اثنان وبعض الثالث وهو القول والعقد وبعض الأعمال ولكن ارتكب صاحبه كبيرة أو بعض الكبائر فعند هذا قالت المعتزلة خرج بهذا عن الإيمان ، ولم يدخل في الكفر ، بل اسمه فاسق وهو على منزلة بين المنزلتين وهو مخلد في النار وهذا باطل كما ; سنذكره .

الدرجة الثالثة : أن يوجد التصديق بالقلب ، والشهادة باللسان ، دون الأعمال بالجوارح ، وقد اختلفوا في حكمه فقال أبو طالب المكي العمل بالجوارح من الإيمان ، ولا يتم دونه وادعى الإجماع فيه واستدل بأدلة تشعر بنقيض غرضه كقوله تعالى : الذين آمنوا وعملوا الصالحات إذ هذا يدل على أن العمل وراء الإيمان لا من نفس الإيمان وإلا فيكون العمل في حكم المعاد والعجب أنه ادعى الإجماع في هذا ، وهو مع ذلك ينقل قوله صلى الله عليه وسلم لا يكفر أحد إلا بعد جحوده لما أقر به وينكر على المعتزلة قولهم بالتخليد في النار بسبب الكبائر .

التالي السابق


وقال: (ونحن نكشف الغطاء عنه ونقول: من جمع بين هذه الثلاث) التصديق والإقرار والعمل (فلا خلاف في أن مستقره في الجنة) باتفاق هؤلاء (وهذه درجة) من درجات ست (والدرجة الثانية أن يوجد اثنان وبعض الثالث) ثم بينه بقوله: (وهو القول) أي: الإقرار باللسان (والعقد) القلبي (وبعض الأعمال) القالبية (ولكن ارتكب صاحبه كبيرة أو بعض الكبائر) وقد اختلف في حد الكبيرة، وأحسن ما قيل في حدها: هي كل معصية تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين، ورقة الديانة، أو كل ما توعد عليه بخصوص من الكتاب أو السنة، وأما الكبائر فقد قال الشيخ أبو طالب المكي في القوت: هي أربع من أعمال القلوب: الشرك والإصرار والقنوط والأمن، وأربع في اللسان: شهادة الزور وقذف المحصنات واليمين الغموس والسحر، وثلاث في البطن: شرب الخمر والمسكر من الأشربة وأكل مال اليتيم وأكل الربا وهو يعلمه، واثنان في الفرج: الزنا واللواط، واثنان في اليد: القتل والسرقة، وواحدة في الرجل: فرار الواحد من الاثنين يوم الزحف، وواحدة في الجسد، وهي عقوق الوالدين .

وسيأتي لهذا البحث زيادة تحقيق في موضعه من هذا الكتاب (فعند هذا قالت المعتزلة) جمهورهم: (خرج بهذا) الارتكاب (عن) دائرة (الإيمان، ولم يدخل) في دائرة (الكفر، بل اسمه الفاسق) عندهم، فارتكاب الكبيرة عندهم فسق (وهو على منزلة بين المنزلتين) ، ليس بمؤمن ولا كافر (وهو مخلد في النار) ، ووافقهم الخوارج في أن صاحب الكبيرة مخلد في النار (وهو باطل; لما سنذكره) بعد، والدرجة (الثالثة: أن يوجد) اثنان: (التصديق بالقلب، والشهادة باللسان، دون) الثالث، أي: (الأعمال بالجوارح، وقد اختلفوا في حكمه) مما يتعلق بالآخرة (فقال) الشيخ (أبو طالب) محمد بن علي بن عطية الحارثي (المكي) رحمه الله تعالى في كتابه "قوت القلوب" في الباب الثالث والثلاثين منه: (العمل من الإيمان، ولا يتم دونه) وهذا يفهم من سياقه في عدة مواضع، منها قوله: وإن الإيمان والعمل قرينان، لا يصح أحدهما إلا بالآخر، كما لا يصحان ولا يوجدان معا إلا بنفي ضدهما، وهو الكفر، وقال في موضع آخر: وقد اشترط الله عز وجل للإيمان العمل الصالح، ونفى النفع بالإيمان إلا بالعمل ووجوده. وقال في موضع آخر: شرط الإيمان العمل والتقوى، كما أن شرط الأعمال الصالحة الإيمان. وقال أيضا في تفسير قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم ، فصارت الأعمال متعلقة بالإيمان، وهما الدين المكمل، وقال أيضا في تفسير قوله تعالى: يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، أراد سبحانه أن قول هؤلاء قول المؤمنين، وأن قولهم من أعمالهم; [ ص: 244 ] لأنهم منفردون بالقول دون العمل، ثم قال بعد ذلك: فأما أن يكون دليلا أن القول حسب هو الإيمان كله، وأن الإيمان يكون قولا لا يحتاج إلى عمل; فهذا باطل، (وادعى الإجماع فيه) ، وذلك في قوله بعد أن أورد أثرا عن علي -رضي الله عنه-: "الإيمان قول باللسان، وعقد بالقلب، وعمل بالأركان"; فأدخل أعمال الجوارح في عقود الإيمان، وأيضا فإن الأمة مجمعة أن العبد لو آمن بجميع ما ذكر في عقود القلب في حديث جبريل -عليه السلام- ثم لم يعمل بما ذكرناه من وصف الإسلام بأعمال الجوارح، أنه لا يسمى مؤمنا، وأنه إن عمل بجميع ما وصف به الإسلام، ولا يعتقد ما وصف الإيمان أنه لا يكون مسلما، وقد أخبر نبي الله -صلى الله عليه وسلم- أن أمته لا تجتمع على ضلالة، فهذه العبارة تشعر بدعوى الإجماع .

(واستدل بأدلة تشعر بنقيض غرضه) الذي ساق الكلام لأجله، (كقوله تعالى: الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ، وكقوله تعالى: إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ، وكقوله تعالى: إلا من آمن وعمل صالحا ، وكقوله تعالى: الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ، وكقوله تعالى: الذين آمنوا وكانوا يتقون (إذ هذا يدل على أن العمل وراء الإيمان) ، أي غيره ودونه، (لا من نفس الإيمان) ، أي من ماهيته، (وإلا فيكون العمل من المعاد) ، أي: المكرر، وهذا نقيض مطلوبه الذي هو إثبات كون العمل من الإيمان، وأنه لا يتم بدونه .

(والعجب) منه (أنه ادعى الإجماع) ، أي إجماع الأمة (في هذا، وهو مع ذلك ينقل قوله صلى الله وعليه وسلم) ونصه: أن الإيمان والعمل قرينان لا ينفع أحدهما دون صاحبه، ولا يصح أحدهما إلا بالآخر، كما لا يصحان، ولا يوجدان معا إلا بنفي ضدهما وهو الكفر، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يكفر أحد إلا بجحوده بما أقر به) ، ونص القوت إلا بجحود ما أقر به، وفي بعض نسخ الإحياء: إلا بعد جحوده لما أقر به .

قال العراقي: أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد، بلفظ: "لن يخرج أحد من الإيمان إلا بجحوده ما دخل فيه"، وإسناده ضعيف اهـ .

قلت: وهكذا هو في الجامع الكبير للسيوطي، والجحد والجحود يقال: فيما ينكر باللسان لا بالقلب. (وينكر على المعتزلة قولهم بالتخليد في النار بسبب الكبائر) ، ونصه: وجميع ما شرحناه وذكرناه عن السلف الصالح يبطل قول المرجئة والكرامية والإباضية، ويدحض دعواهم في أن الإيمان قول أو معرفة، أو عقد بلا عمل، وهو رد على القائلين بالمنزلة بين المنزلتين، الذين يقولون: مؤمن وفاسق وكافر، فلا يجعلون الفاسق مؤمنا، وهو رد على الخشيبة والحزمية والقطعية والحرورية; أصناف من الخوارج يقولون: من أتى كبيرة خرج من الإيمان، وأن أهل الكبائر كفار، يحل قتلهم، وقد ابتلينا بطائفتين مبتدعتين متضادتين في المقالة; المرجئة، والمعتزلة.

قالت المرجئة: إن الموحدين لا يدخلون النار وإن عملوا الكبائر والفسوق; لأن ذلك لا ينقص إيمانهم .

وقالت المعتزلة: الفاسق ليس بمؤمن وإن مات على صغيرة من الصغائر من غير توبة دخل النار -لا محالة ولم يخرج منها- خالدا مع الكفار .

ونقول: إن الصواب في ذلك أن الفاسق مؤمن لا يخرجه فسقه من الإيمان وحكمه، ولكن لا ندخله في المؤمنين حقا في الصديقين والشهداء، وإن أهل الكبائر قد استوجبوا الوعيد ودخول النار، وجاز أن يعفو الله عنهم بكرمه، ويسمح لهم بجوده إلى آخر ما قاله .




الخدمات العلمية