الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولكنا على سبيل الاستظهار والاقتداء بالعلماء النظار نقول : من بديهة العقول أن الحادث لا يستغني في حدوثه عن سبب يحدثه والعالم حادث فإذا لا يستغني في حدوثه عن سبب .

أما قولنا أن الحادث لا يستغني في حدوثه عن سبب فجلي فإن كل حادث مختص بوقت يجوز في العقل تقدير تقديمه وتأخيره ، فاختصاصه بوقته دون ما قبله وما بعده يفتقر بالضرورة إلى المخصص وأما قولنا : العالم حادث فبرهانه أن أجسام العالم لا تخلو عن الحركة والسكون .

التالي السابق


ثم لما فرغ المصنف من البراهين النقلية على إثبات وجوده تعالى شرع في بيان البرهان، فقال: (ولكنا على سبيل الاستظهار) أي: التقوية (والاقتداء بالعلماء النظار) من المتكلمين نرتب على ذلك دليلا و (نقول: من بديهة العقول) ترتيب إثبات وجود الواجب بمقدمتين: إحداهما: العالم حادث، الثانية: (أن الحادث لا يستغني في حدوثه عن سبب) أي: لا يستغني عن سبب يحدثه، أي: يرجح وجوده على عدمه (أما قولنا بأن الحادث لا يستغني في حدوثه عن سبب) وهي المقدمة الثانية (فجلي) أي: ضروري ومعلوم أن ما كان جليا ضروريا لا يستدل لإثباته، وإنما ينبه عليه، وقد نبه عليه بقوله: (فإن كل حادث) وهو ما كان معدوما ثم وجد، أي: الممكن (مختص بوقت يجوز في العقل تقدير تقدمه وتأخره، فاختصاصه بوقته دون ما قبله وما بعده) من الأوقات (يفتقر بالضرورة إلى مخصص) ؛ لأن كلا من تقدمه على ذلك الوقت وتأخره عنه ووقوعه فيه أمر ممكن، فلا بد من مرجح لوقوعه في ذلك الوقت على تقدمه وتأخره; لأن الترجيح من غير مرجح محال، ونقل ابن التلمساني في شرحه "لمع الأدلة" ما نصه: وقد يدعي بعض الأصحاب أن افتقار الترجيح إلى مرجح ضروري، والصحيح أنه قريب من الضروري .

(وأما قولنا: العالم حادث) وهي المقدمة الأولى، والمراد هو ما سوى الله تعالى من الموجودات، جواهر كانت أو أعراضا، فالجوهر ما له قيام بذاته، بمعنى أنه لا يفتقر إلى محل يقوم به، والعرض ما يفتقر إلى محل يقوم به، وقد يعبر بعضهم بدل الجواهر بالأجسام، وعليه جرى المصنف، وهما في اللغة بمعنى، وإن كان [ ص: 91 ] الجسم أخص من الجوهر اصطلاحا; لأنه المؤلف من جوهرين أو أكثر، على الخلاف، في أقل ما يتركب منه الجسم، على ما بين في المطولات، والجوهر يصدق بغير المؤلف وبالمؤلف .

إذا تقرر ذلك فاعلم أن المصنف قد استدل كغيره لإثبات المقدمة الأولى بحدوث الأجسام المعبر بها عن الجواهر، وفي ضمن ذلك حدوث الأعراض، فإنه إذا ثبت حدوث الأجسام، ثبت حدوث الأعراض لا محالة; لافتقارها في تحققها إلى الأجسام (فبرهانه أن أجسام العالم لا تخلو عن الحركة والسكون) فالحركة هي الخروج من القوة إلى الفعل تدريجا، ويقال: شغل حيز بعد أن كان في حيز آخر، وقيل: كونان في آنين في مكانين، كما أن السكون كونان في آن في مكان واحد، والحركة في الكم انتقال الجسم من كمية إلى أخرى، كالنمو والذبول، ولا تكون إلا للجسم، وفي الكيف كتسخين الماء أو تبرده، وتسمى: حركة استحالة، وحركة الأين حركة الجسم من محل إلى آخر، وتسمى: نقلة، وحركة الوضع هي المستديرة المتنقل بها الجسم من محل لآخر، فإن المتحرك بالاستدارة إنما تبدل نسبة أجزائه إلى أجزاء مكانه وهو ملازم لمكانه غير خارج عنه، والحركة العرضية ما يكون عروضها للجسم بواسطة عروضها لآخر بالحقيقة، كجالس السفينة، والحركة الذاتية: ما يكون عروضها لذات الجسم نفسه، والحركة القسرية: ما يكون مبدؤها بسبب ميل مستفاد من خارج، كحجر مرمي إلى فوق، والحركة الإرادية: ما لا يكون مبدؤها بسبب آخر خارج مقارن للشعور والإرادة، كحركة الحيوان بإرادته، والحركة الطبيعية: ما لا يحصل بسبب أمر خارج، وليس بشعور وإرادة، كحركة الحجر إلى أسفل، والسكون: عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك، فعدم الحركة عما من شأنه ألا يتحرك لا يكون سكونا، فالموصوف بهذا لا يكون متحركا ولا ساكنا .




الخدمات العلمية