الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن لم يعقله عقله ولا نهاه نهاه عن أن يقول : لساني حادث ، ولكن ما يحدث فيه بقدرتي الحادثة قديم فاقطع عن عقله طمعك وكف عن خطابه لسانك .

ومن لم يفهم أن القديم عبارة عما ليس قبله شيء .

وأن الباء قبل السين في قولك : بسم الله فلا يكون السين المتأخر عن الباء قديما فنزه عن الالتفات إليه قلبك فلله سبحانه سر في إبعاد بعض العباد ومن يضلل الله فما له من هاد ومن استبعد أن يسمع موسى عليه السلام في الدنيا كلاما ليس بصوت ولا حرف فليستنكر أن يرى في الآخرة موجودا ليس بجسم ولا لون وإن عقل أن يرى ما ليس بلون ولا جسم ولا قدر ولا كمية وهو إلى الآن لم ير غيره فليعقل في حاسة السمع ما عقله في حاسة البصر .

وإن عقل على أن يكون له علم واحد ، هو علم بجميع الموجودات ، فليعقل صفة واحدة للذات ، هو كلام بجميع ما دل عليه من العبارات .

وإن عقل كون السماوات السبع ، وكون الجنة والنار مكتوبة في ورقة صغيرة ، ومحفوظة في مقدار ذرة من القلب وأن كل ، ذلك مرئي في مقدار عدسة من الحدقة من غير أن تحل ذات السماوات والأرض والجنة والنار في الحدقة والقلب والورقة ، فليعقل كون الكلام مقروءا بالألسنة محفوظا في القلوب مكتوبا في المصاحف من غير حلول ذات الكلام فيها إذ لو حلت بكتاب الله ذات الكلام في الورق لحل ذات الله تعالى بكتابة اسمه في الورق وحلت ، ذات النار بكتابة اسمها في الورق ولاحترق .

.

التالي السابق


ثم تحامل المصنف عليهم بقوله: (ومن لم يعظه عقله) أي: الكامل (ولا نهاه نهاه) بالضم، جمع نهية، وهي العقل; لكونه ينهى عن القبيح، ومن ذلك قوله تعالى: ( إن في ذلك لآيات لأولي النهى) ، وبين نهاه، ونهاه جناس تام مع الاشتقاق (عن أن يقول: لساني) الذي أنطق به (حادث، ولكن) العرض القائم به، وهو (ما يحدث فيه) أي: ينشأ فيه (بقدرتي الحادثة) هو (قديم) ، قائم بالذات، ولم يفهم أن الأجسام التي لها أول، إذا جعلت على كيفية مخصوصة، صارت قديمة، (فاقطع عن عقله) أي: عن رجوعه إلى عقله والتدبر في الحق الصريح، وفي بعض النسخ: عن فهمه، (طمعك) أي: رجاءك في رجوعه إلى ما تقرره، بل (وكف) أي: امنع (عن خطابه) ومذاكرته (لسانك) ; فقد رسخ في ذهنه ما تخيله، فلا ينفك عنه; إذ صار له ذلك كالطبع والجبلة، فإزالة ذلك عسر جدا .

ثم لما كان من مذهب المخالفين القول بقدم الحروف والأصوات، وأنها قائمة بذات الحق سبحانه، أشار بالرد عليهم بقوله: (ومن لم يفهم أن القديم عبارة عما ليس قبل كل شيء) والمحدث ما لم يكن، فكان، (وأن الباء) الموحدة (قبل) حرف (السين) المهملة (في قولك: بسم الله) الرحمن الرحيم، ونحوه من الألفاظ المنتظمة الحروف يحس فيها بعدم الحرف الثاني من الكلمة قبل تمام التلفظ بالأول (فلا يكون السين المتأخر عن الباء قديما) لكونه مسبوقا بالباء، وهذا مكابرة للحس، وخروج عن مقتضيات العقول المحيلة (فنزه عن الالتفات إليه قلبك) ، أي: ابعده عنه، ولا تخالط به; فإن شيطانه المريد لا يسمع التفنيد، وبمعاشرته يكثر اللجاج والمراء، ويترتب عليهما فساد النظام [ ص: 147 ] وضياع الوقت فيما لا يجدي إلى المرام، وهذا حال أغبيائهم; فإنهم لا يفهمون معنى القديم، ولا يميزون بينه وبين الحادث، ولا يتحاشون من رفض بداهة العقول، والمتغافلون منهم لم يرضوا بركوب متن الجهل واللجاج، فقالوا: الحروف قديمة بالنوع، ورجعوا كرامية عند التحقيق; (فلله سبحانه) وتعالى (سر) عظيم (في إبعاد بعض العباد) عن منصة التقريب والإرشاد (ومن يضلل الله) إياه (فماله من هاد) يرشده إلى سلوك سبيل السداد .

ثم لما كان من قول المخالفين: كيف يعقل كلام ليس بحرف ولا صوت; أجاب عنه رادا عليهم بقوله: (ومن استبعد أن يسمع موسى عليه السلام) وعلى نبينا (فى الدنيا كلاما ليس بصوت) ولا حرف (فليستنكر أن يرى في الآخرة موجودا) متكلما حيا (ليس بجسم) ، أي: ليس بذي جسم ملموس ومحسوس غير متحيز، (ولا) بذي (لون) ، ولا قابل للحوادث، والمقصود نفي الكيفية على كل حال، وكذلك إذا استبعدوا كيف سمع جبريل عليه السلام، والمؤمنون غدا كيف يسمعون، فالجواب: سمع كلاما ليس بحرف ولا صوت من متكلم حتى ليس له لسان وشفة، وهذه الجملة من كلام المصنف قد ردها الطوخي من الحنابلة، فقال: هو تكلف وخروج عن الظاهر، بل عن القاطع من غير ضرورة، وما ذكره معارض بأن المعاني لا تقوم شاهدا إلا بالأجسام، فإن أجازوا معنى قام بالذات القديمة وليست جسما، فليجيزوا خروج صوت من الذات القديمة وليست جسما; إذ كلا الأمرين خلاف للشاهد، ومن أحال كلاما لفظيا من غير جسم، فليحل ذاتا مرئية غير جسم ولا فوق. اهـ. من شرح التحرير للمرداوي .

وهذا الذي ذكره المصنف من أن الكلام النفسي مما يسمع هو قول الأشعري قاسه على رؤية ما ليس بلون ولا جسم قياسا ألزم به من خالفه من أهل السنة; لاتفاقهم على جواز الرؤية ووقوعها في الآخرة، ثم قال: (وإن عقل أن يرى ما ليس بلون) محسوس (ولا جسم) متحيز (ولا قدر) معلوم (ولا كمية) متصلة أو منفصلة (وهو إلى الآن لم ير غيره فليعقل في حاسة السمع ما عقله في حاسة البصر) ، أي: فليعقل سماع ما ليس بصوت، وهو لا يكون إلا بطريق خرق العادة، كما نبه عليه الباقلاني .

وفي لباب الحكمة الإلهية للمصنف: كلام الله تعالى ليس سوى إفاضة مكنونات علمه على من يريد إكرامه، كما قال تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) ، شرفه الله بعزه وقربه بقدسه، وأجلسه على بساط أنسه، وشافهه بأجل صفاته، وكلمه بعلم ذاته، كما شاء كلمه، وكما أراد سمع، لا يندرج كلامه تحت الكيفية، ولا يحتاج إلى سؤال العلمية، ولا يوصف بالماهية والكمية، بل كلامه كعلمه، وعلمه كإرادته، وإرادته كصفته، وصفته كذاته، وذاته أجل من التنزيه والتكبر، وصفاته أجلى من التفسير والتفصيل، خالق كل شيء، وهو على كل شيء قدير .

قلت: وقد تقدم أن الماتريدي استحال سماع ما ليس بصوت، ووافقه الأستاذ الإسفرايني، واختاره ابن الهمام، وقال: وهو الأوجه عندي; لأن المخصوص باسم السمع من العلم ما يكون إدراك صوت، وإدراك ما ليس صوتا قد يخص باسم الرؤية، وقد يكون له الاسم الأعم، أعني العلم مطلقا، عن التقييد بمتعلق .

قال ابن أبي شريف: ولمن انتصر للأشعري أن يقول: بل المخصوص باسم السمع من العلم ما يكون إدراكا بالقوة المودعة في مقعر الصماخ، وقد يخلق لها إدراك ما ليس بصوت; خرقا للعادة، فيسمى سمعا، ولا مانع من ذلك، بل في كلام الماتريدي في كتاب التوحيد له ما يشهد لذلك على ما نقله عن صاحب التبصرة، وهو جواز سماع ما ليس بصوت، والخلاف إنما هو في الواقع للسيد موسى عليه السلام، فأنكر الماتريدي سماعه الكلام النفسي، وقال: إنما سمع صوتا دالا على كلام الله تعالى، كما تقدم، فتأمل .

ثم قال: (وإن عقل أن يكون [له] علم واحد، هو علم بجميع الموجودات، فليعقل صفة واحدة للذات، هو كلام بجميع ما دل عليه بالعبارات) من أمر ونهي وإخبار، وقد جاز في الشاهد أن يكون الشيء الواحد أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا، فكذلك يجوز في الغائب، ولم يكن مستحيلا، وهذه العبارات مخلوقة; لأنها أصوات، وهي أعراض، سميت تلك العبارات كلام الله; لدلالتها عليه، وتأدية بها، والاختلاف في العبارات المؤدية، لا الكلام .

وقال ابن التلمساني: كل آمر وناه يجد في نفسه اقتضاء وطلبا يعبر عنه بالعبارات المختلفة [ ص: 148 ] والكتابة والإشارة، وما في النفس لا يختلف لاختلاف الدلالات، فكذلك المخبر يجد في نفسه حديثا يعبر عنه بالألفاظ المختلفة، وهذا الوجدان ضروري لا نزاع فيه .

ثم قال: ومن أنكر كلام النفس فقد أنكر أخص وصف الإنسانية; فإن الآدمي يشاركه البهائم في إدراك المحسوسات والوجدانيات، ويختص الآدمي عنها بالقدرة على استحضار العلوم في الذهن، وتركيبها، وترتيبها ترتيبا يتوصل به إلى إدراك الغائبات، وكل ذلك يعتمد الكلام النفسي. اهـ .

ثم قال: (وإن عقل كون السموات السبع) والعرش والكرسي (والأرض، وكون الجنة والنار مكتوبة في ورقة صغيرة، ومحفوظة في تعداد ذرة من القلب، و) عقل (أن ذلك مرئي في مقدار عدسة من الحدقة) التي فيها إنسان العين (من غير أن تحل ذات السموات والأرض) والعرش والكرسي (والجنة والنار في الحدقة والورقة، فليعقل كون الكلام مقروءا بالألسنة) الظاهرة، (محفوظا في القلوب) الباطنة (مكتوبا في المصاحف بالأحبار المتنوعة من غير حلول ذات الكلام فيها) أي: في تلك المصاحف قطعا (إذ لو حلت بكتاب ذات الكلام) فرضا وتقديرا (لحل ذات الله تعالى بكتابة اسمه في الورق، ولحلت ذات النار بكتابة اسمها في الأوراق ولاحترقت) ، ولكان من نطق بالنار احترق فمه، والجنة والنار مكتوبتان في المصاحف، ثم أحد لا يتخيل أنهما مدرجتان فيها بالذات، وكذا النبي صلى الله عليه وسلم مكتوب في التوراة والإنجيل، لا على معنى أنه حل فيهما، ولكن فيهما دلالة عليه، وهو المكتوب صلى الله عليه وسلم بتلك الكتابة، وقد أوضحه المصنف في إلجام العوام بوجه آخر، فقال: اعلم أن لكل شيء في الوجود أربع مراتب: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البياض المكتوب عليه، كالنار مثلا; فإن لها وجودا في التنور، ووجودا في الخيال والذهن، وأعني بهذا الوجود العلم بصورة النار وحقيقتها، ولها وجود في اللسان، وهي كلمة دالة عليها، أعني لفظ النار، ولها وجود في البياض المكتوب عليه بالرقوم. والإحراق صفة خاصة للنار، والمحرق من هذه الجملة هي التي في التنور دون التي في الأذهان وفي اللسان وعلى البياض; إذ لو كان المحرق هو الذي في البياض أو اللسان لاحترق .

ثم قال: وكذلك القدم وصف كلام الله تعالى، وما يطلق عليه القرآن له وجود على أربع مراتب، أولاها -وهي الأصل-: وجود قائم بذات الله تعالى، والثانية: وجود العلم في أذهاننا عند التعلم قبل أن ننطق بلساننا، ثم وجوده في لساننا بتقطع أصواتنا، ثم وجوده في الأوراق بالكتابة، فإذا سئلنا عما في أذهاننا من علم القرآن قبل النطق به قلنا: علمنا صفتنا، وهي مخلوقة، لكن المعلوم به قديم، فإذا سئلنا عن صوتنا وحركة لساننا قلنا: ذلك صفة لساننا، ولساننا حادث وصفته توجد بعده، وما هو بعد الحادث حادث بالضرورة، ولكن منطوقنا ومذكورنا ومقروءنا ومتلوننا بهذه الأصوات الحادثة قديم .

ثم قال: فهذه أربع درجات في الوجود تشكل على العوام، ولا يمكنهم إدراك تفاصيلها. ثم قال: فكما أن ما يرى في المرآة يسمى إنسانا بالحقيقة، لكن على معنى أنه صورة محكية له، فكذا ما في اللسان من الكلمة يسمى باسمه، بمعنى أنه دلالة على ما في الذهن، ومهما فهم اشتراك لفظ القرآن، وكل شيء بين هذه الأمور الأربعة. فإذا ورد في الخبر أن القرآن في قلب العبد، وأنه في المصحف، وأنه في لسان القارئ، وأنه صفة في ذات الله تعالى، صدق بالجميع مع الإحاطة بحقيقة المراد. اهـ المقصود منه .

وذكر ابن التلمساني في شرح لمع الأدلة عند قول الماتن: فصل كلام الله مقروء بألسنة القراء، محفوظ في صدور الحفظة، مكتوب في المصاحف على الحقيقة، والقراءة أصوات القارئين ونغماتهم، وكلام الله تعالى هو المعلوم والمفهوم فيها.. إلخ .

قال في الإيضاح: إن القراءة غير المقروء، والحفظ غير المحفوظ، والكتابة غير المكتوب، وإن المفهوم من هذه المصادر غير المفهوم من أسماء المعقولات، وذهبت الحشوية إلى أن القراءة التي هي حروف وأصوات، وهي فعل العبد وكسبه، وهي أعراض لا تبقى، باتفاق من زعم أن الأعراض لا تبقى، هي عين كلام الله تعالى، وهي قديمة، وقالوا: إن الحروف المكتوبة في المصاحف التي ينسب حصولها للكاتبين قديمة، وبالغوا فقالوا: لو أخذت زفر من حديد، وقطع من نحاس أو شيء من الكأس، وجعلت حروفا تقرأ، كما لو جعلت صورة، صارت تلك الأجسام [ ص: 149 ] قديمة اهـ .

وقال أبو نصر القشيري: والعجب كل العجب من تجاهل أقوام في المصير إلى أن كلام الله تعالى إذا كتب على الآجر، أو شيء من الأصباغ، ينقلب عين الآجر والصبغ قديما، فإذا صار الجهل إلى هذا القدر، والحكم بأن المحدث يصير قديما، والقديم يفارق ذات الباري تعالى، ويحل في المحدثات، فالأولى السكوت .

ثم قال ابن التلمساني: ومما يداني هذا المذهب في جحد الضرورات أن الجبائي من المعتزلة لما لم يعتقد كلاما سوى الحروف والأصوات، ونفى كلام النفس، وكان ما يقرؤه العبد فعلة يثاب عليه، وينفرد باختراعه عنده، وكذلك ما يكتبه في المصحف، وقد أجمع المسلمون على أن لله كلاما مسموعا عند التلاوة، وكلاما مكتوبا في المصاحف، تحير في ذلك، فقال: إذا قرأ القارئ القرآن قارن خروج كل حرف يفعله العبد حرف يخلقه الله تعالى معه يسمع، وهذا افتراء على الحس، وخروج عن المعقول; فإن المحل الواحد لا يقوم به مثلان .

ثم قال: إذا تراسل جماعة في القراءة صحب كلام جميعهم كلام واحد لله تعالى، وهو حروف مخلوقة في لهواتهم، وكيف يتصور وجود حرف واحد في محال متعددة؟! ثم قال: إذا سكت بعضهم عدم كلام الله تعالى بالنسبة إلى الساكت، وبقي بالنسبة إلى القارئ، وكيف يتصور في الشيء الواحد أن يكون موجودا معدوما في آن واحد؟! وقال: إذا كتبت الحروف في المصاحف كان مع كل حرف حرف يخلقه الله تعالى هو كلام ولا يرى. ونقل هذه المذاهب كاف في ردها، ومن يضلل الله فما له من هاد .



(تنبيه)

قال ابن الهمام في المسايرة: وبعد اتفاق أهل السنة -أي: من الفريقين- على أنه تعالى متكلم، أي: بكلام نفسي هو صفة له قائمة به، لم يزل متكلما به، اختلفوا في أنه تعالى هل هو مكلم لم يزل مكلما؟ فعن الأشعري: نعم، هو تعالى كذلك. وعن بعض متكلمي الحنفية: لا. قال: وهو عندي حسن; فإن معنى المكلمية لا يراد به هنا نفس الخطاب الذي يتضمنه الأمر، والذي يتضمنه النهي، كاقتلوا المشركين، لا تقربوا الزنا; لأن معنى الطلب يتضمنه، أي: يتناول ذلك الخطاب، وهو قسمان: الطلب الذي يتضمنه الأمر، والخطاب الذي يتضمنه النهي، فلا يختلف في أن ذلك الخطاب ليس تكليما، بل هو تكلم، إذ هو -أي: ذلك الخطاب- داخل في الكلام القديم، الذي به الباري تعالى متكلم، وألا يراد بمعنى المكلمية إسماع لمعنى فاخلع نعليك مثلا، ولمعنى وما تلك بيمينك يا موسى ، وحاصل هذا عروض إضافة خاصة للكلام القديم بإسماعه لمخصوص بلا واسطة، كما قاله الأشعري، وبلا واسطة معتادة، كما قاله الماتريدي، ولا شك في انقضاء هذه الإضافة بانقضاء الإسماع; فإن أريد به غير هذين الأمرين فليبين; حتى ينظر فيه، والله أعلم .

قال ابن أبي شريف: والتحقيق أن الذي يثبته الأشعري المكلمية ، بمعنى آخر غير الأمرين المذكورين وهو مبني على أصل له خالفه فيه غيره، وبيان ذلك أن المتكلمية و المكلمية مأخوذان من الكلام، لكن باعتبارين مختلفين عند الأشعري، فالمتكلمية مأخوذة من الكلام، باعتبار قيام الكلام بذات الباري تعالى، وكونه صفة له، وهذا محل وفاق، وأما المكلمية فمأخوذة عند الأشعري من الكلام القائم بذات الله تعالى، لكن باعتبار تعلقه أزلا بالمكلف بناء على ما ذهب إليه هو وأتباعه من تعلق الخطاب أزلا بالمعدوم الذي سيوجد، وشدد سائر الطوائف النكير عليهم في ذلك، فالأشعري قائل بالمكلمية بمعنى تعلق الخطاب في الأزل بالمعدوم، والمنكرون لهذا الأصل ينفونها بهذا المعنى، ويفسرونها بالإسماع المذكور، فقد ظهر أن المكلمية عند الأشعري بمعنى سوى الأمرين المذكورين، وبالله التوفيق .

فإن قيل: اعتراضا على الأشعري، التعلق ينقطع بخروج المكلف عن أهلية التكليف بموت ونحوه، ولو كان قديما لما انقطع، قلنا: المنقطع التعلق التنجيزي، وهو حادث، أما الأزلي فلا ينقطع ولا يتغير; لما قلنا في الكلام على الإخبار القائم بالذات من أن التغير في اللفظ الدال عليه لا فيه نفسه، وأن التغير في المعلوم، لا في العلم; فإنه يؤخذ من ذلك أن التغير في متعلق الكلام، وتعلقه التنجيزي لا في التعلق المعنوي الأزلي. اهـ .



استطراد

خلف كلام ابن الهمام السابق - وهو قوله: وهذا عروض- إضافة خاصة للكلام القديم بإسماعه لمخصوص بلا واسطة ولا شك في انقضاء هذه الإضافة بانقضاء الإسماع، وهو أن الشيخ السنوسي قال في شرح الكبرى ما حاصله أن من المحال أن يطرأ على كلامه [ ص: 150 ] سكوت، وقد استدل على ذلك .

ثم قال: وما ورد في الحديث مما يخالف ذلك الذي قررناه فمؤول. وذكر حديثا وتكلم على تأويله، ثم قال: ولهذا تعرف أن ليس معنى وكلم الله موسى تكليما أنه ابتدأ الكلام له بعد أن كان ساكتا، ولا أنه بعدما كلمه انقطع كلامه وسكت، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وإنما المعنى أنه تعالى أزال بفضله المانع عن موسى عليه السلام، وخلق له سمعا وقواه حتى أدرك به كلامه القديم، ثم منعه بعد، ورده إلى ما كان قبل سماع كلامه. اهـ. فانظره مع الكلام السابق، هل بينهما مخالفة أو موافقة؟


(مهمة)

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قال البيهقي: الكلام ما ينطق به المتكلم، وهو مستقر في نفسه، كما جاء في حديث عمر في السقيفة: كنت زورت في نفسي مقالة. وفي رواية: كلاما. قال: فسماه كلاما قبل التكلم به .

قال: فإن كان المتكلم ذا مخارج، سمع كلامه ذا حروف وأصوات، وإن كان غير ذي مخارج فهو بخلاف ذلك، والباري عز وجل ليس بذي مخارج، فلا يكون كلامه بحروف وأصوات. ثم ذكر حديث جابر عن عبد الله بن أنس، وقال: اختلف الحفاظ في الاحتجاج بروايات ابن عقيل; لسوء حفظه، ولم يثبت لفظ الصوت في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم غير حديثه; فإن كان ثابتا فإنه يرجع إلى غيره، كما في حديث ابن مسعود، يعني الذي يليه، وفي حديث أبي هريرة، يعني الذي بعده، أن الملائكة يسمعون عند حضور الوحي صوتا، فيحتمل أن يكون الصوت للسماء، أو للملك الآتي بالوحي، أو لأجنحة الملائكة، وإذا احتمل ذلك لم يكن نصا في المسألة، وأشار في موضع آخر أن الراوي أراد: فينادي نداء; فعبر عنه بصوت. اهـ .

قال الحافظ: وهذا حاصل كلام من نفى الصوت من الأئمة، ويلزم منه أن الله تعالى لم يسمع أحدا من ملائكته ولا رسله كلامه، بل ألهمهم إياه، وحاصل الاحتجاج للنفي الرجوع إلى القياس على أصوات المخلوقين; لأنها التي عهد أنها ذات مخارج، ولا يخفى ما فيه; إذ الصوت قد يكون من غير مخارج، كما أن الرؤية قد تكون من غير اتصال أشعة، كما سبق سلمنا، لكن يمنع القياس المذكور، وصفة الخالق لا تقاس على صفة المخلوق، وإذا ثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة، وجب الإيمان به، ثم إما التفويض، وإما التأويل، وبالله التوفيق. اهـ .

ولقد أجاد - رحمه الله تعالى- وأنصف، واتبع الحق الذي لا محيد عنه، ويفهم من هذا أن من قال بالصوت، نظرا للأحاديث الواردة فيه، لا ينسب إلى الجهل والتبديع والعناد، كما فعله السعد وغيره، فتأمل ذلك .




الخدمات العلمية