الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال الصديق رضي الله عنه الحمد لله الذي لم يجعل للخلق سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته .

ولنقبض عنان الكلام عن هذا النمط ولنرجع إلى الغرض ، وهو أن أحد الأقسام ما تكل الأفهام عن إدراكه ومن جملته الروح ، ومن جملته بعض صفات الله تعالى .

ولعل الإشارة إلى مثله في قوله صلى الله عليه وسلم : " إن لله سبحانه وتعالى سبعين حجابا من نور ، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره .

"
.

التالي السابق


(وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه) في بعض خطبه على المنبر (الحمد لله الذي لم يجعل للخلق سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته) ويروى [ ص: 72 ] عنه أيضا: العجز عن درك الإدراك إدراك .

قال المصنف في كتابه المذكور: نهاية معرفة العارفين عجزهم عن المعرفة، ومعرفتهم بالحقيقة هي أنهم لا يعرفونه، وأنهم لا يمكنهم ألبتة معرفته، وأنه يستحيل أن يعرف الله المعرفة الحقيقية المحيطة بكنه صفات الربوبية إلا الله تعالى، فإذا انكشف لهم ذلك انكشافا برهانيا فقد عرفوه، أي: بلغوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته، ثم قال: وللمعرفة سبيلان، أحدهما السبيل الحقيقي، وذلك مسدود إلا في حق الله تعالى، فلا يهتم أحد من الخلق لنيله وإدراكه إلا ردته سبحات الجلال إلى الحيرة، ولا يشرئب أحد لملاحظته إلا غطى الدهش طرفه .

وأما السبيل الثاني وهو معرفة الصفات والأسماء فذلك مفتوح للخلق، وفيه تتفاوت مراتبهم، فليس من يعلم أنه عالم قادر على الجملة كمن شاهد عجائب آياته في ملكوت السموات والأرض، وخلق الأرواح والأجساد، واطلع على بدائع المملكة وغرائب الصنعة، ممعنا في التفاصيل، ومستغرقا في دقائق الحكمة، ومستوفيا لطائف التدبير، ومتصفا بجميع الصفات الملكية المقربة من الله تعالى، نائلا تلك الصفات نيل اتصاف بها، بينهما من البون البعيد ما لا يكاد يحصى، وفي تفاصيل ذلك ومقاديره تتفاوت الأنبياء والأولياء، ولن يصل ذلك إلى فهمك إلا بمثال، ولله المثل الأعلى، ولكنك تعلم أن العالم التقي الكامل مثلا مثل الشافعي -رضي الله عنه- يعرفه المزني تلميذه، والبواب يعرف أنه عالم بالشرع، ومصنف فيه، ومرشد خلق الله تعالى إليه على الجملة، والمزني يعرفه لا كمعرفة البواب، بل يعرفه بمعرفة محيطة بتفاصيل صفاته ومعلوماته، بل العالم الذي يحسن عشرة أنواع من العلوم لا يعرفه بالحقيقة تلميذه الذي لم يحصل إلا نوعا واحدا، فضلا عن خادمه الذي لم يحصل شيئا من علومه، بل الذي حصل علما واحدا فإنما عرف على التحقيق عشره إذا ساواه في ذلك العلم حتى لم يقصر عنه، فإن قصر عنه فليس يعرف بالحقيقة ما قصر عنه إلا بالاسم وإيهام الجملة، وهو أنه يعرف أنه يعلم شيئا سوى ما علمه .

فكذلك فافهم تفاوت الخلق في معرفة الله تعالى فبقدر ما انكشف له من معلومات الله تعالى وعجائب مقدوراته وبدائع آياته في الدنيا والآخرة، والملك والملكوت، تزداد معرفتهم بالله تعالى، وتقرب معرفتهم من معرفته الحقيقية، فإن قلت: فإذا لم يعرفوا حقيقة الذات واستحال معرفتها فهل عرفوا الأسماء والصفات معرفة تامة حقيقية؟ قلنا: هيهات ذلك، لا يعرفه بالكمال في الحقيقة إلا الله تعالى; لأننا إذا علمنا ذاتا عالمة فقد علمنا شيئا مهما لا ندري حقيقته، لكن ندري أن له صفة العلم، فإن كانت صفة العلم معلومة لنا حقيقة، كان علمنا بأنه عالم أيضا علما تاما بحقيقة هذه الصفة، وإلا فلا، ولا يعرف أحد حقيقة علم الله تعالى إلا من له مثل علمه، وليس ذلك له؛ فلا يعرفه سواه تعالى، وإنما يعرفه غيره بالتشبيه بعلم نفسه، كما أوردناه من مثال التشبيه بالسكر، وعلم الله تعالى لا يشبه علم الخلق ألبتة؛ فلا يكون معرفته به معرفة تامة حقيقية أصلا، بل إيهامية تشبيهية .

(ولنقبض عنان الكلام عن هذا النمط) فقد خضنا لجة بحر لا ساحل له، وأمثال هذه الأسرار لا ينبغي أن تبذل بإيداعها في الكتب، وإذا جاء هذا غرضا غير مقصود فلنكشف عنه (ولنرجع إلى الغرض، وهو أن أحد الأقسام) المذكورة (ما تكل الأفهام عن إدراكه) ومعرفة حقيقته (ومن جملته الروح، ومن جملته بعض صفات الله تعالى، ولعل الإشارة إلى مثله في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله سبحانه سبعين حجابا من نور، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره") وهكذا أورده المصنف في كتابه "مشكاة الأنوار" إلا أنه قال: "من نور وظلمة"، والباقي سواء، قال: وفي بعض الروايات سبعمئة، وفي بعضها سبعين ألفا. اهـ .

وفي كتاب الأسماء والصفات لأبي منصور التميمي أنه -صلى الله عليه وسلم- وصف ربه -عز وجل- فقال: "حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركته"، وفي رواية: "دون الله سبعون ألف حجاب من نور وظلمة". اهـ .

وقال العراقي: أخرج أبو الشيخ، ابن حبان في كتاب "العظمة" من حديث أبي هريرة: "بين الله وبين الملائكة الذين حول العرش سبعون حجابا من نور" وإسناده ضعيف، وفيه أيضا من حديث أنس قال: قال رسول الله [ ص: 73 ] -صلى الله عليه وسلم- لجبريل: "هل ترى ربك؟ قال: إن بيني وبينه لسبعين حجابا من نور" وفي الكبير للطبراني من حديث سهل بن سعد: "دون الله تعالى سبعون ألف حجاب من نور وظلمة"، ولمسلم من حديث أبي موسى: "حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه"، ولابن ماجه: "كل شيء أدركه بصره". اهـ .

قال أبو منصور التميمي في كتابه المذكور: كل خبر ذكر فيه الحجاب فإنه يرجع معناه إلى الخلق; لأنهم هم المحجوبون عن رؤية الله -عز وجل- وليس الخالق محجوبا عنهم; لأنه يراهم، ولا يجوز أن يكون مستورا بحجاب؛ لأن ما ستره غيره فساتره أكبر منه، وليس لله -عز وجل- حد ولا نهاية، فلا يصح أن يكون بغيره مستورا، ودليله قوله -عز وجل- : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ، ولم يقل إنه محجوب عنهم، ويؤيد ذلك ما رواه ابن أبي ليلى، عن علي -رضي الله عنه- أنه مر بقصاب، فسمعه يقول في يمينه: لا والذي احتجب سبعة أطباق. فعلاه بالدرة، وقال له: يا لكع، إن الله لا يحتجب عن خلقه بشيء، ولكنه حجب خلقه عنه، فقال له القصاب: أولا أكفر عن يميني يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا، إنك حلفت بغير الله.

فأما قوله: "لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه"، فقد تأوله أبو عبيد على أن المراد به: لو كشف الرحمة عن النار لأحرقت من على الأرض، وكذلك قوله: "دون الله سبعون ألف حجاب من نور وظلمة"، معناه أنها أجمع حجاب لغيره; لأنه غير محصور في شيء، وقيل: معناه أن لله -عز وجل- علامات ودلالات على وحدانيته لو شاهدها الخلق لقامت مقام العيان في الدلالة عليه، غير أنه خلق دون تلك الدلائل سبعين ألف حجاب من نور وظلمة ليتوصل الخلق إلى معرفته بالأدلة النظرية دون المعارف الضرورية. اهـ .



وفصل الخطاب في هذا المقام ما قاله المصنف في "مشكاة الأنوار" في تفسير هذا الحديث ما نصه: إن الله متجل في ذاته بذاته لذاته، ويكون الحجاب بالإضافة إلى محجوب لا محالة، وإن المحجوبين من الخلق ثلاثة أقسام: منهم من يحجب بمجرد الظلمة، ومنهم من يحجب بالنور المحض، ومنهم من يحجب بنور مقرون بظلمة، وأصناف هذه الأقسام كثيرة، ويمكنني أن أتكلف حصرها، لكني لا أثق بما يلوح من تحديد وحصر، إذ لا أدري أنه المراد بالحديث أم لا؟ أما الحصر إلى سبعمئة أو سبعين ألفا فتلك لا يستقل بها إلا القوة النبوية مع أن ظاهر ظني أن هذه الأعداد مذكورة للتكثير، لا للتحديد، وقد تجري العادة بذكر أعداد ولا يراد به الحصر، بل التكثير، والله أعلم بتحقيق ذلك، وذلك خارج عن الوسع، وإنما الذي يمكنني الآن أن أعرفك هذه الأقسام وبعض أصناف كل قسم:

القسم الأول: المحجوبون بمحض الظلمة، وهؤلاء صنفان، والصنف الثاني منهما ينقسمون أربعة فرق، وأصناف الفرقة الرابعة لا يحصون وكلهم محجوبون عن الله بمحض الظلمة، وهي نفوسهم المظلمة .

والقسم الثاني: طائفة حجبوا بنور مقرون بظلمة، وهم ثلاثة أصناف: صنف منشأ ظلمتهم من الحس، وصنف منشأ ظلمتهم من الخيال، وصنف منشأ ظلمتهم عن مقايسات عقلية فاسدة، وفي الصنف الأول طوائف ستة، لا يخلو واحد منهم عن مجاوزة الالتفات إلى نفسه، والتشوق إلى معرفة ربه، وفي الصنف الثاني أيضا طوائف، وأحسنهم رتبة المجسمة، ثم الكرامية، وفي الثالث أيضا فرق، فهؤلاء كلهم أصناف القسم الثاني الذين حجبوا بنور مقرون بظلمة .

والقسم الثالث: هم المحجوبون بمحض الأنوار، وهم أربعة أصناف، الواصلون منهم الصنف الرابع، وهم الذين تجلى لهم أن الرب المطاع موصوف بصفة لا تتناهى في الوحدانية المحضة والكمال البالغ، وأن نسبة هذا المطاع إلى الموجودات الحسية نسبة الشمس في الأنوار المحسوسة منه، فتوجهوا من الذي يحرك السموات، ومن الذي أمر بتحريكها إلى الذي فطر السموات، وفطر الأرض بتحريكها، فوصلوا إلى موجود منزه عن كل ما أدركه بصر الناظرين وبصيرتهم؛ إذ وجودهم من قبله، فأحرقت سبحات وجهه وجه الأول، إلا على جميع ما أدركه الناظرون وبصيرتهم؛ إذ وجدوه مقدسا منزها، ثم انقسموا، فمنهم من أحرق منه جميع ما أدركه بصره وانمحق وتلاشى، ولكن بقي هو ملاحظا للعمال والقدس، وملاحظا ذاته في جماله الذي ناله بالوصول إلى الحضرة الإلهية، وانمحقت منه المبصرات دون المبصر .

وجاوز هؤلاء طائفة منهم خواص الخواص، فأحرقتهم سبحات وجهه وغشيهم [ ص: 74 ] سلطان الجلال، وأمحقوا وتلاشوا في ذاته، ولم يبق لهم لحاظ إلى أنفسهم بفنائهم عن أنفسهم، ولم يبق إلا الواحد الحق، وصار معنى قوله تعالى: كل شيء هالك إلا وجهه : لهم ذوقا وحالا، فهذه نهاية الواصلين، ومنهم من لم يتدرج في الترقي والعروج عن التفصيل الذي ذكرناه، ولم يطل عليه العروج، فسبقوا في أول وهلة إلى معرفة القدس وتنزيه الربوبية عن كل ما يجب تنزيهه عنه، فغلب عليهم أولا ما غلب على الآخرين آخرا، وهجم عليهم التجلي دفعة فأحرقت سبحات وجهه جميع ما يمكن أن يدركه بصر حسي، أو بصيرة عقلية، ويشبه أن يكون الأول طريق الخليل، والثاني طريق الحبيب صلوات الله وسلامه عليهما، والله أعلم بأسرار أقدامهما وأنوار مقامهما .

فهذه إشارة إلى أصناف المحجوبين، ولا يبعد أن يبلغ عددهم إذا فصلت المقامات وتتبع حجب السالكين سبعين ألفا، وإذا فتشت لا تجد واحدا منهم خارجا عن الأقسام التي حصرناها؛ فإنهم إنما يحجبون بصفاتهم البشرية أو بالحس أو بالخيال أو بمقايسة العقل أو بالنور المحض، كما سبق، والله أعلم. اهـ .




الخدمات العلمية