الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الأصل الرابع .

أن الله تعالى متفضل بالخلق والاختراع ومتطول بتكليف العباد ولم يكن الخلق والتكليف واجبا عليه .

وقالت المعتزلة وجب عليه ذلك لما فيه من مصلحة ; العباد .

التالي السابق


(الأصل الرابع)

في خصوصيات التكوين، التي منها التفضل والإنعام في الدارين بالتوفيق للأصلح في الدنيا والدين، والتوفيق للطاعات، والإثابة عليها، والعدل بالخذلان وعدم التوفيق لذلك لسوء الاختيار بالمعاقبة على المعاصي .

اعلم (أن الله تعالى متفضل) أي: محسن (بالخلق) وهو الإيجاد مطلقا (والاختراع) لا على مثال سابق، ونعمة الإيجاد شاملة لكل موجود (وهو) تعالى (متطول) ، الطول هو الفضل والزيادة، والمعنى متفضل (بتكليف العباد) ، أي: جعلهم أهلا لأن يخاطبهم بالأمر والنهي، فما أنعم به فهو فضل منه، وما عاقب عليه فهو عدل (ولم يكن الخلق والتكليف واجبا عليه) سبحانه، حاصله أن جميع الكائنات كيفما كانت على العموم كوجود العالم، أو على الخصوص كوجود الإنسان ووجود ما به ما يكون كماله من العقل وتيسير المطالب والصحة وسلامة القوى، وبعث الرسل والثواب والعقاب، كل ذلك لا يجب عليه شيء منه، لا بالوجوب الشرعي، ولا العقلي، ولا العادي، ولا غير ذلك; فجميع الكائنات بالنسبة إليه على السوية، وإنما المخصص لأحد الجانبين [ ص: 179 ] مشيئته وإرادته المتعلقة بالشيء تعلق التخصيص، على نحو ما تعلق به العلم; فجميع ما فعل مما فيه لطف بعبده بمحض فضل وكرم وإحسان منه إليه، وما فيه من تعذيب وابتلاء فمحض عدل منه إليه، ولو شاء لعكس .

(وقالت المعتزلة) البغداديون منهم والبصريون: (وجب عليه) سبحانه (ذلك; رعاية لمصلحة العباد) ، اعلم أنهم اتفقوا على أصل الوجوب على الله تعالى، ثم اختلفوا، فزعم البغداديون أنه يجب على الله تعالى رعاية الأصلح لعباده في دينهم ودنياهم; فلا يجوز في حكمه تبقية وجه من وجوه الصلاح في العاجل والآجل إلا ويفعله، فقالوا: بناء على هذا الأصل إن ابتداء الخلق واجب، ومن علم من خلقه أنه يكلفه فيجب عليه كمال عقله، وإزاحة علله، وخلق الألطاف له .

ثم قالوا: إن كل ما ينال العبد من الأمور المضرة والآلام فهو الأصلح له، وإنما ارتكب معصية، فهو الذي اختار لنفسه الفساد، ويجب على الله معاقبته إن لم يتب، ولم تكن من الصغائر. قالوا: وهو الأصلح في حق الفاسق، وقد ورد الوعيد به، وعدم وقوعه خلف .

وهؤلاء أخذوا مذاهبهم من الفلاسفة، وهو أن الله تعالى جواد، وأن الواقع في الوجود هو أقصى الإمكان، ولو لم يقع ذلك لم يكن جوادا، وقد التزمت المعتزلة أن الله تعالى لا يكون له اختيار في ترك فعل البتة; لوجوب ابتداء الخلق، ووجوب اختصاصه بالوقت المعين، ووجوب فعل الأصلح، ووجوب الثواب والعقاب .

ولما استبعد البصريون منهم ذلك قالوا: لا يجب أصل الخلق، لكن متى أراد الله تعالى تكليف عبد فيجب عليه إكمال عقله، وإزاحة علله وما يترتب على فعله من الثواب والعقاب .

ونقل إمام الحرمين في الإرشاد إجماع الفئتين -البغدادية والبصرية منهم- على أن الرب سبحانه إذا خلق عبده وأكمل عقله لا يتركه هملا، بل يجب عليه أن يقدره ويمكنه من نيل المراشد .

ثم قال إمام الحرمين: ونقل أصحاب المقالات عن هؤلاء مطلقا -يعني المعتزلة- أنه يجب على الله تعالى فعل الأصلح في الدين، وإنما الاختلاف في فعل الأصلح في الدنيا، وهذا النقل فيه تجوز، وظاهره يوهم زللا; فقد يتوهم المتوهم أنه يجب عند البصريين الابتداء بإكمال العقل لأجل التكليف، وليس ذلك مذهبا لدى مذهبهم; فالذي ينتحله البصريون أنه تعالى متفضل بإكمال العقل ابتداء، ولا يجب عليه إثبات أسباب التكليف، وإذا تأملت ذلك ظهر لك أن في سياق المصنف نوع مخالفة، إلا أن يريد من المعتزلة فرقة خاصة .




الخدمات العلمية