الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الأصل التاسع .

أن شرائط الإمامة بعد الإسلام والتكليف خمسة الذكورة والورع والعلم والكفاية ونسبة : قريش لقوله صلى الله عليه وسلم : " الأئمة من قريش " وإذا اجتمع عدد من الموصوفين بهذه الصفات فالإمام من انعقدت له البيعة من أكثر الخلق ، والمخالف للأكثر باغ يجب رده إلى الانقياد إلى الحق .

التالي السابق


(الأصل التاسع أن شرائط الإمامية) العظمى المعبر عنها بالخلافة (بعد الإسلام) ; لأن الكافر لا يصح تقليده لأمور المسلمين (والتكليف) ; لأن غير العاقل من الصبي والمعتوه عاجز عن القيام بأموره، فكيف يقوم بأمر غيره؟! وبعد الحرية; لأن العبد مشغول الأوقات بحقوق سيده، فكيف يتفرغ بشأن غيره؟! وأيضا محتقر في أعين الناس، فلا يهاب، ولا يمتثل أمره، وبعد سلامته من العمى والصمم والبكم; إذ مع وجود شيء منها لا يمكنه القيام بشأن الإمامة، وكأن المصنف لم يذكر هذه الشروط لشهرتها لكونها لا بد منها (خمسة:) الأول: (الذكورية) كذا في النسخ، وفي بعضها الذكورة، واشتراطها لأن إمامة المرأة لا تصح; إذ النساء ناقصات عقل ودين، ممنوعات من الخروج إلى مشاهد الحكم ومعارك الحرب .

(و) الثاني (الورع) أراد به العدالة، وبها عبر الأكثر، وهي المرتبة الأولى من مراتب الورع، التي هي ترك ما يوجب اقتحامه وصف الفسق، كما سيأتي للمصنف في كتابه هذا، وخرج من العدالة الظلم والفسق; فالظالم يختل به أمر الدين والدنيا، فكيف يصلح للولاية؟! والفاسق لا يصلح بأمر الدين ولا يوثق بأوامره ونواهيه، وربما اتبع هواه في حكمه، فصرف أموال بيت المال بحسب أغراضه، فيضيع الحقوق .

(و) الثالث (العلم) وأراد به الاجتهاد في الأصول الدينية والفروع; ليتمكن بذلك من القيام بأمر الدين بالحجج وحل الشبه في العقائد، ويستقل بالفتوى في النوازل وأحكام الوقائع نصا واستنباطا; لأن مقاصد الإمامة حفظ العقائد، وفصل الحكومات، ورفع الخصومات، وهذا الذي ذكرناه من تفسير العلم هنا هو مراد المصنف، كما يدل عليه سياق عبارته في الاقتصاد أيضا، ومنهم من فسر العلم بعلم المقلد في الفروع وأصول الفقه، وقال إن الاجتهاد على الوجه المذكور ليس شرطا في الإمامة; لندرة وجوده، وجوز الاكتفاء فيه بالاستعانة بالغير بأن يفوض أمر الاستفتاء للمجتهدين .

(و) الرابع (الكفاءة) وفي بعض النسخ: الكفاية، وهي القدرة على القيام بأمور الإمامة ويحترز بها عن العجز، وهي أعم من الشجاعة; إذ الكفاءة تتناول كونه ذا رأي بتدابير الحروب وترتيب الجيوش وحفظ الثغور، وكونه ذا شجاعة، وهي قوة قلب، بها يقتص من الجناة، ويقيم الحدود الشرعية، ولا يجبن عن الحروب، ومنهم من لم يشترط كونه ذا رأي وذا شجاعة; لندرة اجتماعهما في شخص واحد، وإمكان تفويض مقتضياتها إلى الشجعان وأصحاب الآراء الصائبة، وعند الحنفية العدالة ليست شرطا لصحة الولاية، فيصبح تقليد الفاسق الإمامة مع الكراهة، وإذا قلد عدلا ثم جار في الحكم وفسق بذلك أو بغيره لا ينعزل، ولكن يستحق العزل إن لم يستلزم فتنة، ويجب أن يدعى له، ولا يجب الخروج عليه، كذا عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى .

(و) الخامس (نسبة قريش) أي: كونه من أولاد قريش، وهو لقب النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. والنضر هو الجد الثالث عشر لسيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم؛ هكذا ذكره ابن قدامة، ولما وفد كندة على رسول الله صلي الله عليه وسلم سنة عشر، وفيهم الأشعث بن قيس، فقال الأشعث للنبي صلى الله عليه وسلم: "أنت منا"، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "لا ننفوا أمنا، ولا ننتفي من أبينا، نحن بنو النضر بن كنانة"؛ فكان الأشعث يقول: "لا أوتى بأحد ينفي قريشا من النضر إلا جلدته"؛ يشير الأشعث بقوله: "أنت منا" إلى جده كندة، هي أم كلاب بن مرة؛ وإلى هذا القول ذهب بعض الشافعية. ويروى أيضا عن الأشعث بن قيس عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لا أوتى برجل يقول: إن كنانة ليست من قريش إلا جلدته". والصحيح عند أئمة النسب أن قريشا هو فهر بن مالك بن النضر، وهو جماع قريش، وهو الجد الحادي عشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل من لم يلده فليس بقرشي .

[ ص: 231 ] وقد حكى بعضهم في تسمية فهر بقريش عشرين قولا، أوردتها في شرحي على القاموس، فراجعه. وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري في باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم مكة -عند قوله: "وذلك أن قريشا وكنانة"-: فيه إشعار بأن في كنانة من ليس قرشيا; إذ العطف يقتضي المغايرة، فترجح القول بأن قريشا من ولد فهر بن مالك، على القول بأنهم ولد كنانة، نعم، لم يعقب النضر غير مالك، ولا مالك غير فهر، فقريش ولد النضر بن كنانة، فأما كنانة فأعقب من غير النضر، فلهذا وقعت المغايرة. اهـ .

وهو جمع حسن، وقوله: "لم يعقب النضر غير مالك"، صحيح; فإنه ليس له ولد باق ينسب إليه غير مالك، وأما يخلد بن النضر جد بدر بن الحرث بن يخلد الذي سميت بدر به بدرا، فانقرض، ثم إن كثيرا من المعتزلة نفى هذا الاشتراط، متمسكين بما رواه البخاري: "اسمع وأطع وإن عبدا حبشيا كأن رأسه زبيبة". وأجيب بحمله على من ينصبه الإمام أميرا على سرية أو غيرها; لأن الإمام لا يكون عبدا بالإجماع، وقد أشار المصنف إلى دليل أهل السنة في هذا الشرط بقوله: (لقوله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش") قال العراقي: أخرجه النسائي من حديث أنس، والحاكم من حديث علي، وصححه. اهـ .

قلت: وكذا أخرجه البخاري في التاريخ، وأبو يعلى، كلهم من طريق بكير الجزري عن أنس، وأخرجه الطيالسي والبزار والبخاري في التاريخ من طريق سعد بن إبراهيم عن أنس، وفيه زيادة: "ما إذا حكموا فعدلوا". وأخرجه أحمد من حديث أبي هريرة وأبي بكر الصديق رضي الله عنهم بهذا اللفظ، من غير زيادة، ورجاله رجال الصحيح، لكن في سنده انقطاع، وأخرجه الطبراني والحاكم من حديث علي، وعند الطبراني أيضا من حديث علي: "ألا إن الأمراء من قريش ما أقاموا ثلاثا.."، الحديث، وعنده أيضا من رواية قتادة عن أنس بلفظ: "إن الملك في قريش.."، الحديث، وأخرج يعقوب بن سفيان وأبو يعلى والطبراني من طريق سكين بن عبد العزيز: حدثنا سيار بن سلامة أبو المنهال قال: دخلت مع أبي على أبي برزة الأسلمي، فسمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الأمراء من قريش.."، الحديث، وأخرج البخاري في الصحيح من حديث ابن عمر رفعه: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان". وعند مسلم: "ما بقي من الناس اثنان". وفي رواية الإسماعيلي: "ما بقي في الناس اثنان"، وأشار بإصبعيه، السبابة والوسطى، وأخرج البيهقي من حديث جبير بن مطعم رفعه: "قدموا قريشا ولا تقدموها". وعند الطبراني من حديث عبد الله بن حنطب، ومن حديث عبد الله السائب مثله، وفي نسخة أبي اليماني عن شعيب عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة مرسلا أنه بلغه مثله، وأخرجه الشافعي من وجه آخر عن ابن شهاب أنه بلغه مثله، وفي الباب حديث أبي هريرة رفعه: "الناس تبع لقريش في هذا الشأن". أخرجه البخاري من رواية المغيرة بن عبدالرحمن، ومسلم من رواية سفيان بن عيينة، كلاهما عن الأعرج عن أبي هريرة، وأخرجه مسلم أيضا من رواية همام عن أبي هريرة، ولأحمد من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة مثله، لكن قال: "في هذا الأمر".

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري -عند قوله: "إن هذا الأمر في قريش"-: ما نصه: قال ابن المنير: وجه الدلالة من الحديث ليس من جهة تخصيص قريش بالذكر; فإنه يكون مفهوم نعت، ولا حجة فيه عند المحققين، وإنما الحجة وقوع المبتدأ معرفا باللام الجنسية; لأن المبتدأ بالحقيقة ههنا هو "الأمر" الواقع صفة لـ"هذا"، و"هذا"، لا يوصف إلا بالجنس، فمقتضاه حصر جنس الأمر في قريش، فيصير كأنه قال: "إلا في قريش"، وهو كقوله: "الشفعة فيما لم يقسم". والحديث وإن كان بلفظ الخبر، فهو بمعنى الأمر، كأنه قال: ائتموا بقريش خاصة، وبقية طرق الحديث تؤيد ذلك، ويؤخذ منه أن الصحابة اتفقوا على إفادة المفهوم للحصر، خلافا لمن أنكر ذلك، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم أن شرط الإمام أن يكون قرشيا، وقيد ذلك طوائف ببعض قريش، فقالت طائفة: لا يجوز إلا من ولد علي. وهذا قول الشيعة، ثم اختلفوا اختلافا شديدا في بعض تعيين ذرية علي، وقالت طائفة: تختص بولد العباس، وهو قول أبي مسلم الخراساني وأتباعه، ونقل ابن حزم أن طائفة قالت: لا تجوز إلا في ولد جعفر بن أبي طالب. وقالت [ ص: 232 ] أخرى: في ولد عبدالمطلب. وعن بعضهم: لا تجوز إلا في بني أمية. وعن بعضهم: إلا في ولد عمر. قال: ولا حجة لأحد من هؤلاء الفرق. اهـ .

وقالت الخوارج وطائفة من المعتزلة: يجوز أن يكون الإمام غير قرشي، وإنما يستحق الإمامة من قام بالكتاب والسنة، سواء كان عربيا أو عجميا. وبالغ ضرار بن عمرو فقال: تولية غير القرشي أولى; لأنه يكون أقل عشيرة، فإذا عصى كان أمكن. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: لم يعرج المسلمون على هذا القول بعد ثبوت الحديث: "الأئمة من قريش". وعمل المسلمون به قرنا بعد قرن، وانعقد الإجماع على اعتبار ذلك قبل أن يقع الاختلاف. قال الحافظ: قد عمل بقول ضرار من قبل أن يوجد من قام بالخلافة من الخوارج على بني أمية، كقطري، ودامت فتنتهم حتى أبادهم المهلب أكثر من عشرين سنة. وكذا تسمى بأمير المؤمنين من غير الخوارج ممن قام على الحجاج، كابن الأشعث، ثم تسمى بالخلافة من قام في قطر من الأقطار في وقت ما، وليس من قريش، كبني عباد، وغيرهم بالأندلس، وكعبدالمؤمن وذريته ببلاد المغرب كلها، وهؤلاء ضاهوا الخوارج في هذا، ولم يقولوا بأقوالهم، ولا تمذهبوا بآرائهم، بل كانوا من أهل السنة، داعين إليها. وقال عياض: اشتراط كون الإمام قرشيا مذهب العلماء كافة، وقد عدوها في مسائل الإجماع، ولم ينقل عن أحد من السلف فيها خلاف، وكذلك من بعدهم في جميع الأمصار، قال: ولا اعتداد بقول الخوارج ومن وافقهم من المعتزلة; لما فيه من مخالفة المسلمين .

قال الحافظ: ويحتاج في نقل الإجماع إلى تأويل ما جاء عن عمر في ذلك، فقد أخرج أحمد عن عمر بسند رجاله ثقات أنه قال: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته. فذكر الحديث، وفيه: إن أدركني أجلي وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل. الحديث، ومعاذ أنصاري لا نسب له في قريش، فيحتمل أن يقال: لعل الإجماع انعقد بعد عمر على اشتراط أن يكون الخليفة قرشيا، أو تغير اجتهاد عمر في ذلك، والله أعلم. اهـ .

واستدل بحديث ابن عمر على عدم وقوع ما فرضه الفقهاء من الشافعية وغيرهم أنه إذا لم يوجد قرشي يستخلف كناني، فإن لم يوجد فمن بني إسماعيل، فإن لم يوجد منهم أحد مستجمع الشرائط فعجمي، وفي وجه: جرهمي، وإلا فمن ولد إسحاق، قالوا: إنما فرض الفقهاء ذلك على عادتهم في ذكر ما يمكن أن يقع عقلا، وإن كان لا يقع عادة أو شرعا .

قال الحافظ: والذي حمل قائل هذا القول عليه أنه فهم منه الخبر المحض، وخبر الصادق لا يتخلف، وأما من حمله على الأمر فلا يحتاج إلى هذا التأويل، والله أعلم .

(وإذا اجتمع عدد من الموصوفين بهذه الصفات) أي: وجدت هذه الشروط في جماعة، بحيث يصلح كل منهم للإمامة، فالأولى بالإمامة أفضلهم، فإن ولي المفضول مع وجود الأفضل صحت إمامته، والمراد باجتماع العدة في قول المصنف اجتماعهم في الوجود، لا في عقد الولاية لكل منهم، فيكون قوله: (فالإمام من انعقدت له البيعة من أكثر الخلق، والمخالف للأكثر باغ يجب رده إلى الانقياد إلى الحق) جريا على ما هو العادة الغالبة، فلا مفهوم له، وبهذا يجمع بينه وبين كلام غيره من أهل السنة ما مقتضاه اعتبار السبق فقط، فإذا بايع الأقل ذا أهلية أولا ثم بايع الأكثر غيره فالثاني يجب رده، والإمام هو الأول، ولا يولى أكثر من واحد; لما روى مسلم من حديث أبي سعيد: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما". والأمر بقتله محمول على ما إذا لم يندفع إلا بالقتل قتل. والمعنى في امتناع تعدد الإمام أنه مناف لمقصود الإمامة من اتحاد كلمة الإسلام، واندفاع الفتن، وأن التعدد يقتضي لزوم امتثال أحكام متضادة .

ويثبت عقد الإمامة بأحد أمرين: إما باستخلاف الخليفة إياه، وإما ببيعة من تعتبر بيعته من أهل الحل والعقد، ولا يشترط بيعة جميعهم، ولا عدد محدود، بل يكفي بيعة جماعة من العلماء، أو أهل الرأي والتدبير. وعند الأشعري: يكفي الواحد من العلماء المشهورين من أولي الرأي، فإذا بايع انعقدت، بشرط كونه بمشهد مشهود; لرفع إنكار الانعقاد إن وقع من العاقد، أو من غيره، وشرط المعتزلة خمسة، وذكر بعض الحنفية اشتراط جماعة دون عدد مخصوص، والله أعلم .




الخدمات العلمية