الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القسم الثالث من النظافة التنظيف عن الفضلات الظاهرة .

وهي نوعان أوساخ وأجزاء النوع الأول الأوساخ والرطوبات المترشحة .

وهي ثمانية .

الأول ما يجتمع في شعر الرأس من الدرن والقمل فالتنظيف عنه مستحب بالغسل والترجيل والتدهين إزالة للشعث عنه وكان صلى الله عليه وسلم يدهن الشعر ويرجله غبا ويأمر به ويقول صلى الله عليه وسلم : ادهنوا غبا وقال صلى الله عليه وسلم : من كان له شعرة فليكرمها أي ليصنها عن الأوساخ ودخل عليه رجل ثائر الرأس أشعث اللحية فقال : أما كان لهذا دهن يسكن به شعره ، ثم قال : يدخل أحدكم كأنه شيطان .

الثاني ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن والمسح يزيل ما يظهر منه وما يجتمع في قعر الصماخ فينبغي أن ينظف برفق عند الخروج من الحمام فإن كثرة ذلك ربما تضر بالسمع .

الثالث ما يجتمع في داخل الأنف من الرطوبات المنعقدة الملتصقة بجوانبه ويزيلها بالاستنشاق والاستنثار .

الرابع ما يجتمع على الأسنان وطرف اللسان من القلح فيزيله السواك والمضمضة وقد ذكرناهما .

الخامس ما يجتمع في اللحية من الوسخ والقمل إذا لم يتعهد ويستحب إزالة ذلك بالغسل والتسريح بالمشط .

وفي الخبر المشهور أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يفارقه المشط والمدرى والمرآة في سفر ولا حضر وهي سنة العرب وفي خبر غريب أنه صلى الله عليه وسلم كان يسرح لحيته في اليوم مرتين وكان صلى الله عليه وسلم كث اللحية وكذلك كان أبو بكر وكان عثمان طويل اللحية رقيقها وكان علي عريض اللحية قد ملأت ما بين منكبيه .

وفي حديث أغرب منه قالت عائشة رضي الله عنها : اجتمع قوم بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فرأيته يطلع في الحب يسوي من رأسه ولحيته فقلت أوتفعل ذلك يا رسول الله فقال : نعم إن الله يحب من عبده أن يتجمل لإخوانه إذا خرج إليهم والجاهل ربما يظن أن ذلك من حب التزين للناس قياسا على أخلاق غيره وتشبيها للملائكة بالحدادين وهيهات فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمورا بالدعوة وكان من وظائفه أن يسعى في تعظيم أمر نفسه في قلوبهم كيلا تزدريه نفوسهم ويحسن صورته في أعينهم كيلا تستصغره أعينهم فينفرهم ذلك ويتعلق المنافقون بذلك في تنفيرهم .

التالي السابق


(القسم الثالث من النظافة)

لما فرغ من بيان طهارة الخبث وطهارة الحدث شرع في بيان طهارة الفضلات فقال هو (التنظيف عن الفضلات الطاهرة وهي) ، أي : الفضلات (نوعان أوساخ) تطرأ من خارج (وأجزاء) من نفس البدن (النوع الأول الأوساخ) جمع وسخ ، وهو ما يتعلق بالثوب والبدن من قلة التعهد (و) يلحق بها (الرطوبات المترشحة) وهي النداوات التي ترشح من الجسد فتارة تلتصق به وتارة تنعقد فيكون لها جرم (وهي ثمانية الأول ما يجتمع في شعر الرأس من الدرن) محركة الوسخ وظاهر سياق أهل اللغة أنهما مترادفان وقيل : الدرن خاص بما تولد من البدن بخلاف الوسخ ، فإنه أعم من ذلك (والقمل) بفتح فسكون معروف ويتولد من الأعراق إذا لم تتعهد بالغسل (فالتنظيف عنه مستحب بالغسل) بالماء وحده أو مع نحو صابون وخطمي ونحوهما (والترجيل) ، وهو التمشيط (والتدهين) ، أي : استعمال الدهن (إزالة للشعث) ، وهو انتشار الشعر وتغيره وتلبده لقلة تعهده بالدهن والتسريح (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدهن الشعر) بتشديد الدال (ويرجله) ، أي : يسرحه (غبا) ، أي : يفعله وقتا ويتركه وقتا وأصل الغب ، ورود الإبل الماء يوما وتركه يوما ، ثم استعمل في المعنى المذكور (ويأمر به ويقول : ادهنوا غبا) ، وأخرج الترمذي في الشمائل بإسناد ضعيف من حديث أنس كان يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته وفيه أيضا بإسناد حسن من حديث صحابي لم يسم رفعه كان يترجل غبا ، وأما قوله : ادهنوا غبا فقال ابن الصلاح : لم أجد له أصلا ، وقال النووي : غير معروف ، وعند أبي داود والترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل النهي عن الترجل إلا غبا بإسناد صحيح قاله العراقي قال ابن حجر في شرح الشمائل : وإنما نهى عن الترجل إلا غبا ؛ لأن إدمانه يشعر بمزيد الإمعان في الزينة والترفه وذلك إنما يليق بالنساء ؛ لأنه ينافي شهامة الرجال .

(وقال صلى الله عليه وسلم : من كانت له شعرة فليكرمها أي ليصنها) ، أي : ليحفظها (عن الأوساخ) ، وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة بلفظ : من كان له شعر فليكرمه وليس إسناده بالقوي (ودخل عليه) صلى الله عليه وسلم (رجل ثائر الرأس) منتشر شعره (أشعث اللحية) ، أي : متلبدها (فقال صلى الله عليه وسلم : أما كان لهذا دهن يسكن به شعره ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : يدخل أحدكم كأنه شيطان) قال العراقي : أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث جابر بإسناد جيد اهـ. جعله شيطانا في كمال بشاعته وشناعة هيئته ومن عادة العرب كل شيء رأوه مستشنعا شبهوه بالشيطان (الثاني ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن) ، أي : ما يلتوي منها (والمسح) بالماء في الوضوء (يزيل ما يظهر منه) ، وقد تقدم في الوضوء (و) ، أما (ما يجتمع في قعر) ، أي : داخل (الصماخ) ، وهو ثقب الأذن (فينبغي أن ينظف برفق) وتؤدة وسكون (عند الخروج من الحمام) ؛ لأنه يلين ؛ إذ ذاك فيسهل خروجه وذلك بطرف الخلال (فإن كثرة ذلك) الوسخ في ذلك الموضع (ربما يضر بالسمع) ، أي : يحجمه ولذا أمرنا بتنظيفه (الثالث ما يجتمع داخل الأنف) في خوانها (من الرطوبات المنعقدة) النازلة من الدماغ (الملتصقة بجوانبها) كالقشور الرقيقة خصوصا من تعود بسعوط شيء من المنشوقات ، فإنها تبقى غالبا في الأنف بقايا مع ما ينزل من الرطوبات البلغمية من حرارة التنشق فيلتصق ويجمد (ويزيلها الاستنشاق) ، وهو جذب الماء إلى الأنف بقوة النفس (والاستنثار) ، وهو نثر الماء المذكور [ ص: 396 ] من الأنف بقوة النفس ، وإن احتاج الأمر إلى إدخال أصبع لتنقية ما فيها فلا بأس (الرابع ما يجتمع على الأسنان وأطراف اللسان) من يمين وشمال (من القلح) ، وهو محرك الصفرة والخضرة (ويزيله بالسواك) ، أي : فعله طولا وعرضا على الأسنان وعلى اللسان (و) كذلك (المضمضة) ، فإنها بعد السواك لا تبقي شيئا من التغيرات (وقد ذكرناهما) في الوضوء (الخامس ما يجتمع في اللحية من الوسخ والقمل إذا لم يتعهد) بدهن أو تسريح فيتلبد بعضها على بعض (ويستحب إزالة ذلك بالغسل) بالماء (والتسريح بالمشط) ، فإن كان ذلك بعد الوضوء فحسن (وفي الخبر المشهور أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يفارقه المشط والمدرى في سفر ولا حضر ) قال العراقي : أخرج ابن طاهر في كتاب صنعة التصوف من حديث أبي سعيد كان لا يفارق مصلاه سواكه ومشطه ، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة وإسنادهما ضعيف وسيأتي في آداب السفر مطولا اهـ قلت : قال الحافظ ابن حجر : حديث عائشة عند الخطيب في الكفاية من الوجه الذي أخرجه الطبراني وفيه المشط والمدرى ، وفي بعض نسخ الكتاب بعد قوله : والمدرى والمرآة قلت : وعند العقيلي من حديث عائشة كان لا يفارقه في الحضر ولا في السفر خمس المرآة والمكحلة والمشط والمدرى ، وفي إسناده يعقوب بن الوليد الأزدي قال في الميزان : كذبه أبو حاتم ويحيى وحرق أحمد حديثه ، وقال : كان يضع الحديث ، ورواه الخرائطي من حديث أم سعد الأنصارية وسنده ضعيف أيضا وأعله ابن الجوزي من جميع طرقه قال المصنف (وهي سنة العرب) ، أي : هذه الأشياء مما يحافظون على ملازمتها سفرا وحضرا ، وكان النبي يفعل ذلك في المدرى كمنبر القرن الذي يحك به الرأس يقال : أدرى رأسه إذا حكه ويعني بقوله : المشهور ، أي : المستفيض على ألسنة الناس لا المعنى الاصطلاحي (وفي خبر غريب أنه صلى الله عليه وسلم كان يسرح لحيته في اليوم مرتين ) ، وفي بعض النسخ في كل يوم مرتين لم يرد الحديث بهذا اللفظ ومعناه في حديث أنس المتقدم بذكره عند الترمذي في الشمائل كان يكثر تسريح لحيته وللخطيب في الجامع من حديث الحكم مرسلا كان يسرح لحيته بالمشط ولما كان ظاهره يضاد ما سبق كان يترجل غبا جعله غريبا ولم يرد منه المعنى الاصطلاحي بدليل قوله فيما بعد ، وفي حديث أغرب منه (وكان صلى الله عليه وسلم كث اللحية ) أخرجه الترمذي في الشمائل من حديث هند بن أبي هالة وأبو نعيم في الدلائل من حديث علي وأصله عند الترمذي ومعنى كث ، أي : عظيمها ومجتمعها أو كثيرها في غير طول ولا رقوقة (وكذلك كان أبو بكر ) رضي الله عنه ، كما ذكر في حليته الشريفة (وكان عثمان ) رضي الله عنه (طويل اللحية رقيقها) والطول والرقوقة يباين الكثوثة ، وكان أهل مصر يشبهونها بلحية نعثل رجل من اليهود كان بمصر يعيبون عليه بذلك (وكان علي ) رضي الله عنه (عريض اللحية) عظيمها (قد ملأت ما بين منكبيه) لكثرة شعرها ومع ذلك كان رضي الله عنه قصير القامة (وفي حديث أغرب منه) ، أي : أكثر غرابة مما ذكر (قالت عائشة رضي الله عنها : اجتمع قوم) من الأعراب (بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، أي : ينظرون خروجه فخرج إليهم (فرأيته يطلع) ، أي : بوجهه الشريف (في الحب) بالضم ، وهو وعاء كالخابية فيها ماء (يسوي من رأسه ولحيته) ، أي : يصلح شعرهما بالتسوية قالت عائشة : (فقلت أو تفعل ذلك يا رسول الله) كأنها تستفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم متعجبة من فعله وما كانت قبل ذلك رأته يفعل مثل ذلك (فقال : نعم إن الله يحب من عبده أن يتجمل لإخوانه) ، أي : يريهم أثر جمال الله (إذا خرج إليهم) قال العراقي : أخرجه ابن عدي في الكامل ، وقال : حديث منكر اهـ ، وكأنه صلى الله عليه وسلم كان مستعجلا في الخروج إليهم ولذا لم يلتفت إلى المرآة ينظر فيها وجهه الشريف ونظر في الحب لصفاء مائه ، بل هو يرى أحسن من المرآة ويحكي الوجه ، كما هو بلونه ولذا اتخذ الملوك ديدنهم في الرؤية فيه بدلا عن المرآة (والجاهل) بمعارف العلوم والأسرار الخفية (ربما يظن) بحدسه (أن ذلك الفعل) منه صلى الله عليه وسلم (من حيث التزين) ، أي : إظهار الزينة (للناس) ، أي : ليروه مزينا (قياسا على أخلاق غيره) صلى الله [ ص: 397 ] عليه وسلم لعدم تمييزه (وتشبيها بالملائكة) العلويين (بالحدادين) المستفلين (وهيهات) فما أبعد ظنه (فقد كان صلى الله عليه وسلم مأمورا بالدعوة) ، أي : بدعاء الخلق إلى الله تعالى وحيث ثبتت نبوته ثبتت دعوته ، وأخرج أبو يعلى وابن عدي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفعه بعثت داعيا ومبلغا الحديث وإسناده ضعيف (وكان من) جملة (وظائفه أن يسعى في تعظيم أمر نفسه في قلوبهم) ، أي : أولئك المدعوين (كيلا تزدريه) ، أي : تحتقره (نفوسهم) وتشمئز منه (و) أن (يحسن صورته) الظاهرة (في أعينهم) فيروه على أعلى مراتب الجمال (كيلا تستصغره) ، أي : تستذله (أعينهم) عند وقوع الرؤية عليه (فينفرهم ذلك ويتعلق المنافقون بذلك في تنفيرهم) اتباعا لهم لعدم تمكين نور الإيمان في قلوبهم قال القاضي عياض في الشفاء الأنبياء منزهون عن النقائص في الخلق والخلق سالمون من المعايب ولا يلتفت إلى ما قاله من لا تحقيق عنده في هذا الباب من أصحاب التاريخ في صفات بعضهم وإضافة بعض العاهات إليهم فالله تعالى قد نزههم عن ذلك ورفعهم عن كل ما هو عيب ونقص مما يغض العيون وينفر القلوب اهـ .

وكذلك ذكر النووي والقرطبي في شرح الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رفعه كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض ، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده الحديث قال العراقي في شرح التقريب : وقد يقال : دل الحديث على سلامته عليه السلام مما نسبوه إليه ، وأما كونه يجب تنزيهه وتنزيه غيره من الأنبياء من هذا العيب وغيره فهو مقرر من خارج ، وفي أخذه من هذا الحديث نظر ، وذكر القرطبي هذا الكلام وقيده بقوله : في أول خلقهم ، ثم قال : ولا يعترض علينا بعمى يعقوب وبابتلاء أيوب ، فإن ذلك كان طارئا عليهم محبة لهم وليقتدي بهم من ابتلي ببلاء في حالهم وصبرهم ، وفي أن ذلك لم يقطعهم عن عبادة الله تعالى ، ثم إن الله تعالى أظهر كرامتهم ومعجزتهم بأن أعاد يعقوب بصيرا عند وصول قميص يوسف له وأزال عن أيوب جذامه وبلاءه عند اغتساله من العين التي أنبع الله له عند ركضه الأرض برجله فكان ذلك زيادة في معجزاتهم وتمكينا في كمالهم وميزاتهم .




الخدمات العلمية