الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قيل فإذا لم يجب النظر والمعرفة إلا بالشرع والشرع لا يستقر ما لم ينظر المكلف فيه ، فإذا قال المكلف للنبي : إن العقل ليس يوجب على النظر والشرع لا يثبت عندي إلا بالنظر ولست أقدم على النظر أدى ذلك إلى إفحام الرسول صلى الله عليه وسلم . قلنا هذا يضاهي قول القائل للواقف في موضع من المواضع إن وراءك سبعا ضاريا فإن لم تبرح عن المكان قتلك ، وإن التفت وراءك ونظرت عرفت صدقي فيقول الواقف لا يثبت صدقك ما لم ألتفت ورائي ولا ألتفت ورائي ولا أنظر ما لم يثبت صدقك . فيدل هذا على حماقة هذا القائل وتهدفه للهلاك ، ولا ضرر فيه على الهادي المرشد فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن وراءكم الموت ودونه السباع الضارية والنيران المحرقة إن لم تأخذوا منها حذركم وتعرفوا لي صدقي بالالتفات إلى معجزتي وإلا هلكتم فمن التفت عرف واحترز ونجا ومن لم يلتفت وأصر هلك وتردى ولا ضرر علي إن هلك الناس كلهم أجمعون وإنما علي البلاغ المبين فالشرع يعرف وجود السباع الضارية بعد الموت والعقل يفيد فهم كلامه والإحاطة بإمكان ما يقوله في المستقبل .

والطبع يستحث على الحذر من الضرر .

التالي السابق


(فإن قيل) من طرف المعتزلة: ليس تخصيص العذاب في الآية بعذاب الدنيا خلاف مقتضى الإطلاق فلا موجب، بل هو خلاف له موجب عقلي، وهو أن الواجبات - كالنظر المؤدي إلى الإيمان بوجود الباري تعالى ووحدانيته- لو لم يكن عقليا لزم الدور، وإذا وجب النظر المؤدي إلى الإيمان عقلا، وإن لم يرد الشرع، وجب الإيمان عقلا; لأن العلم بوجوبه لازم للنظر الصحيح المؤدي إليه، الذي هو أول واجب، ويلزم من وجود الملزوم وجود اللازم، أما الملازمة الثانية فلأن وجوب الوسيلة عقلا - من حيث هي وسيلة- يقتضي وجوب المقصود كذلك، وأما الملازمة الثانية فقد أشار إليها المصنف بقوله: (فإذا لم يجب النظر والمعرفة إلا بالشرع) ، أي: إذا حصرتم مدارك الأحكام في الشرع المنقول دون قضايا العقول (والشرع لا يستقر ما لم ينظر المكلف فيه، فإذا) أظهر الرسول معجزته ودعا الخلق إلى النظر فيها ليعلم صدقه (قال المكلف للنبي: إن العقل ليس يوجب علي) أي: لا يجب علي النظر إلا بشرع مستقر (و) أما (الشرع) [ ص: 194 ] فإنه (لا يثبت) في حقي (إلا بالنظر) المؤدي إلى علمي بثبوته (ولست أقدم على النظر) لأعلم ثبوت الشرع في حقي ما لم يجب (أدى ذلك إلى) الدور، وهو باطل، وأدى أيضا إلى (إفحام الرسول. قلنا) في الجواب: ما ذكرتموه ينعكس عليكم في إيجاب العقول; فإن العقل لا يوجبه بضرورته; لأمرين: أحدهما: اختلاف العقلاء فيه، الثاني: أنه يتوقف على أمور نظرية، والمتوقف لا يكون ضروريا بيان وقوعه على الأمور النظرية أنه يتوقف على إيجاب المعرفة، وهو نظري، وإيجاب النظر بوجوب المعرفة بناء على أن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب نظري أيضا، وأنه لا طريق سواه، وهو نظري; فتعين أن ما يوجبه النظر - وإن كان كذلك- فللعاقل أن يمتنع من النظر حتى يوجبه العقل، فيقول: لا أنظر ما لم يجب، ولا يجب ما لم أنظر. هذا من حيث الجدل، وأما من حيث التحقيق فإن وجوب النظر لا يتوقف على نظر المكلف، بل متى ورد الشرع وأخبر بالإيجاب، وكان المكلف بحال يصح منه النظر والاستدلال، فقد تحقق الشرع، والموقوف على نظره علمه بالوجوب، لا نفس الوجوب، والمشروط في التكليف أن يكون المكلف له سبيل إلى العلم بما كلف به، فإن من أغلق عليه بابا وقال: مهما خطر لي من الحركات والسكنات أفعله، ولا تكليف لله تعالى علي; لأنني لم أطلع على حكمه، يكون عاصيا بالإجماع; فإنه لا يخلو إما أن يكون من أهل الاجتهاد، أو لا، فإن كان من أهل الاجتهاد فالواجب عليه أن ينظر ليعلم حكم الله تعالى بالإجماع، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد وجب عليه السؤال وتقليد من يعرف حكم الله تعالى، و (هذا) القدر المفروض صدوره من المكلف لنبيه ساقط عن الاعتبار; إذ ليس مثله مما يصدر عن عاقل، فلا يكون عذرا لقائله في ترك النظر .

وقد ضرب المصنف له مثلا ليفهم، فقال: هو (يضاهي) أي: يشابه (قول القائل للواقف في موضع من المواضع) قصدا للإرشاد إلى النجاة: (إن وراءك) أي: خلفك (سبعا) وهو الحيوان المفترس (ضاريا) وصفه بالشدة والضراوة (فإن لم تنزعج) هكذا في سائر النسخ، وفي بعضها: "فإن لم تبرح"، (عن المكان) الذي أنت فيه بالحركة والانتقال (قتلك، وإن التفت وراءك ونظرت عرفت صدقي) أي: صدق قولي (فيقول) له ذلك (الواقف) المذكور: (لا يثبت) عندي (صدقك ما لم ألتفت ورائي) وأنظر (ولا ألتفت ورائي ولا أنظر ما لم يثبت صدقك. فيدل هذا) كما لا يخفى (على حماقة هذا القائل) وسقوطه عن حيز الاعتبار (وتهدفه) أي نصب نفسه هدفا (للهلاك، ولا ضرر فيه على الهادي المرشد) للنجاة (فكذلك النبي يقول) لمن بعث إليهم ما معناه: اعلموا: (أن وراءكم) أي: خلفكم أو أمامكم، فإنه من الأضداد، والمعنى صحيح على الوجهين (الموت) أي: لا بد منه (ودونه السباع الضارية) لعله أراد بذلك ملائكة العذاب، على التشبيه، وإلا لا مناسبة لذكرها بعد الموت، ولذا أسقط هذه الجملة ابن الهمام في المسايرة (والنيران المحرقة إن لم تأخذوا حذركم منها) بالتوبة والتصديق والعمل الصالح، (وتعرفوا لي صدقي بالالتفات إلى معجزتي) فإن إعراضكم عن قبول ما جئت به، أو تكذيبكم إياي موجب للهلاك الأبدي، وهو الخلود في العذاب الأليم (فمن التفت) منكم بأن نظر في معجزاتي (عرف) صدقي (واحترز) أي: صار في حرز (ونجا) من الهلاك الأبدي (ومن لم يلتفت) منكم بالنظر فيها (وأصر) على عناده (هلك) هلاكا، بل (وتردى) على أم رأسه في الهاوية (ولا ضرر علي إن هلك الناس كلهم) أي: جميعهم، وقوله (أجمعون) تأكيد له (وإنما علي البلاغ المبين) أي: المظهر للحق (فالشرع يعرف وجود السباع الضارية بعد الموت) ويحذر من عذاب النار (والعقل يفيد فهم كلامه) أي الخطاب (و) يفيد (الإحاطة بإمكان ما يقول في المستقبل) من الزمان، فيجوز العقل صدق ما يقول النبي قبل النظر في المعجزة (والطبع يستحث على الحذر من الضرر) وذلك يحمل العاقل على النظر لا محالة، فيمتنع تخلف النظر في عادة العقلاء، فيكون مجرد تجويز العقل ما يقول النبي مع استحثاث الطبع على الحذر من الضرر، وملزوما عقليا، أي: يحكم العقل بأنه ملزوم للنظر، فلا يتخلف النظر عنه، ومستند حكم العقل فيه اطراد العادة .

قال ابن أبي شريف: إنه ليس المراد بالنيران فيما مر نيران الآخرة; لأنها وراء الموت، لا دونه، ولأنها لم تثبت عند المخاطبين بعد، بل المراد [ ص: 195 ] بها وبالموت تعظيم ما وراءهم وتهويله، إلا الموت الحقيقي، قلت: وفيه نظر يحتاج إلى تأمل، وقد يقال في الاعتراض على هذا التقدير: إن مجرد تجويز العقل صدق ما يقول النبي ليس ملزوما عقليا للنظر، ولا استحثاث الطبع ملزوما عقليا أيضا، لا بمجرده، ولا مع التجويز المذكور، بل قد لا ينساق المكلف إلى النظر بسبب علة الشهوة على استحثاث الطبع مع قوة النفس المانعة عن الانقياد، ومع سهوها عن النظر في العواقب، ويعود المحذور، وهو لزوم الإفحام، وحاصله منع الملازمة، وقد يجاب بأنه مكابرة لما قرر أن مستند حكم العقل باللزوم اطراد العادة ومجرد التجويز العقلي لا يقدح في العلم باللزوم المستند ذلك العلم إلى العادة، وقد يجاب عن تمسكهم بلزوم الإفحام بأن مقتضى ما ذكرتم من التمسك هو وجوب النظر المستلزم لوجوب الإيمان عند دعوة النبي إليه، وبه نقول، وهو لا يفيد وجوب النظر على المكلف بلا دعوة من النبي، ولا إخبار أحد له بما يجب الإيمان به، وهو مطلوبكم، وحاصله أن ما أفاده دليلكم محل وفاق، ولم يفد مطلوبكم الذي هو محل النزاع .




الخدمات العلمية