الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الأصل الرابع :

الميزان وهو حق قال الله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة وقال تعالى : فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه الآية ووجهها أن الله تعالى يحدث في صحائف الأعمال وزنا بحسب درجات الأعمال عند الله تعالى فتصير مقادير أعمال العباد معلومة للعباد حتى يظهر لهم العدل في العقاب ، أو الفضل في العفو وتضعيف الثواب .

التالي السابق


(الأصل الرابع: الميزان) ، وقد تقدم للمصنف في أول العقيدة تحديده، فقال: ذو الكفتين واللسان، وصفته في العظم أنه مثل طباق السموات والأرض، توزن فيه الأعمال بقدرة الله تعالى، والصنج يومئذ مثاقيل الذر والخردل، تحقيق لتمام العدل، وتطرح صحائف الحسنات في صورة حسنة في كفة النور; فيثقل بها الميزان على قدر درجاتها بفضل الله تعالى، وتطرح صحائف السيئات في صورة قبيحة في كفة الظلمة; فيخف بها الميزان بعدل الله تعالى، وقد تقدم شرح هذه الكلمات وما يتعلق بها، فأغنانا عن ذكره ثانيا، والمقصود هنا بيان أنه حق ثابت، دلت عليه قواطع السمع، وهو ممكن، فوجب التصديق به (قال الله تعالى: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: اختلف في ذكره هنا بلفظ الجمع: هل المراد أن لكل شخص ميزانا، أو لكل عمل ميزانا; فيكون الجمع [ ص: 219 ] حقيقة، أو ليس هناك إلا ميزان واحد، والجمع باعتبار تعدد الأعمال أو الأشخاص. (وقال تعالى: فمن ثقلت موازينه ) فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم ، ويحتمل أن يكون الجمع للتفخيم، كما في قوله تعالى: كذبت قوم نوح المرسلين ، مع أنه لم يرسل إليهم إلا واحد، والذي يترجح أنه ميزان واحد، ولا يشكل بكثرة من يوزن عمله; لأن أحوال القيامة لا تكيف بأحوال الدنيا .

والقسط: العدل، وهو نعت الموازين، وإن كان مفردا وهي جمع; لأنه مصدر، قال الطيبيفي القسط: العدل، وجعل وهو مفرد من نعت الموازين وهي جمع; لأنه كقولك: عدل، رضا. وقال الزجاج: المعنى: ونضع الموازين ذات القسط. وقيل: هو مفعول من أجله، أي: لأجل القسط. واللام في قوله: ليوم القيامة ، للتعليل، مع حذف مضاف، أي: لحساب يوم القيامة. وقيل: هو بمعنى: في كذا، جزم به ابن قتيبة، واختاره ابن مالك. وقيل: للتوقيت، كقول النابغة:


توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع

وذكر حنبل بن إسحاق في كتاب السنة عن أحمد بن حنبل أنه قال- ردا على من أنكر الميزان- ما معناه: قال الله تعالى: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الميزان يوم القيامة، فمن رد على النبي صلى الله عليه وسلم فقد رد على الله عز وجل. اهـ .

ومثله قول الله تعالى: والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ، وهل الموازين في هاتين جمع ميزان، أو جمع موزون؟ جرى صاحب الكشاف والبيضاوي على الثاني، وكثير من المفسرين على الأول، وقال الزجاج: أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان، وتميل بالأعمال، وأنكر المعتزلة الميزان، وقالوا: هو عبارة عن العدل، فخالفوا الكتاب والسنة، لأن الله تعالى أخبر أنه يضع الموازين القسط لوزن الأعمال، لترى العباد أعمالهم ممثلة، ليكونوا على أنفسهم شاهدين .

وقال ابن فورك: أنكرت المعتزلة الميزان، بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها، إذ لا تقوم بأنفسها. قال: وقد روى بعض المتكلمين عن ابن عباس أن الله تعالى يقلب الأعراض أجساما فيزنها. اهـ .

وقد ذهب بعض السلف أن الميزان بمعنى العدل والقضاء، فأسند الطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: ونضع الموازين القسط ، قال: إنما هو مثل، كما يحرر الوزن كذلك يحرر الحق. ومن طريق ليث بن أبى سليم عن مجاهد قال: الموازين: العدل .

والراجح ما ذهب إليه الجمهور، وقال الطيبي: إنما توزن الصحف، وأما الأعمال فإنها أعراض، فلا توصف بثقل ولا خفة. والحق عند أهل السنة أن الأعمال حينئذ تجسد أو تجعل في أجسام، فتصير أعمال الطائعين في صورة حسنة، وأعمال المسيئين في صورة قبيحة، ثم توزن .

ورجح القرطبي أن الذي يوزن الصحائف التي يكتب فيها الأعمال، ونقل عن ابن عمر قال: توزن صحائف الأعمال. قال: فإذا ثبت هذا فالصحف أجسام، فيرتفع الإشكال، ويقويه حديث البطاقة الذي أخرجه الترمذي -وحسنه- والحاكم -وصححه- وفيه: "فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة.. اهـ .

والصحيح أن الأعمال هي التي توزن، وقد أخرج أبو داوود والترمذي وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن". وفي حديث جابر رفعه: "توضع الموازين يوم القيامة، فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال حبة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال حبة دخل النار". قيل: فمن استوت حسناته وسيئاته؟ قال: "أولئك أصحاب الأعراف". أخرجه خيثمة في فوائده، وعند ابن المبارك في الزهد عن ابن مسعود نحوه موقوفا .

وقد ذهب المصنف في العقيدة الصغرى وهنا إلى أن الموزون صحائف الأعمال، وتبعه ابن الهمام في المسايرة، مشيرا إلى وجه الوزن بقوله: (ووجهه) أي: الوجه الذي يقع عليه وزن الأعمال (أن الله تعالى يحدث في صحائف الأعمال وزنا) ، وفي [ ص: 220 ] المسايرة: ثقلا. وعبارة المصنف في الاقتصاد: خلق الله في كفتها ميلا (بحسب درجات الأعمال عند الله) تعالى، وعبارة الاقتصاد بقدر رتبة الطاعات، ففي نص المصنف في الاقتصاد تصريح بأن الذي يخلق ميل في الكفة، وهو لا يستلزم خلق ثقل في جرم الصحيفة، هذا اعتراض ابن أبي شريف على شيخه، وهو غير متجه عند القائل (فتصير مقادير أعمال العباد معلومة) ممثلة (للعباد) ، ليكونوا على أنفسهم شاهدين، وعبارة المصنف في الاقتصاد: فإن قيل: أي فائدة في الوزن؟ وما معنى هذه المحاسبة؟ ثم ساق الجواب وقال بعد ذلك ما نصه: ثم أي بعد في أن تكون الفائدة فيه أن يشاهد العبد مقدار أعماله ويعلم أنه مجزي بعمله بالعدل، أو متجاوز عنه باللطف، وقد لخص هذا الجواب هنا فقال: (حتى يظهر العدل في العقاب، أو الفضل في العفو وتضعيف الثواب) ، وقوله: "حتى" غاية لقوله: يحدث في صحائف الأعمال وزنا .

وقال بعض المتأخرين: لا يبعد أن يكون من الحكمة في ذلك ظهور مراتب أرباب الكمال، وفضائح أرباب النقصان على رؤوس الأشهاد، زيادة في سرور أولئك، وخزي هؤلاء. * (فائدة) *

روى اللالكائي في كتاب السنة عن حذيفة موقوفا: إن صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام.




الخدمات العلمية