الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الأصل الثامن :

أن معرفة الله سبحانه وطاعته واجبة بإيجاب الله تعالى وشرعه لا بالعقل خلافا للمعتزلة لأن العقل وإن أوجب الطاعة فلا يخلو إما أن يوجبها لغير فائدة وهو محال ; فإن العقل لا يوجب العبث وإما أن يوجبها لفائدة ، وغرض ، وذلك لا يخلو إما أن يرجع إلى المعبود وذلك محال في حقه تعالى ; فإنه يتقدس عن الأغراض والفوائد بل الكفر والإيمان والطاعة والعصيان في حقه تعالى سيان وإما أن يرجع ذلك إلى غرض العبد ، وهو أيضا محال لأنه لا غرض له في الحال ، بل يتعب به وينصرف عن الشهوات بسببه وليس في المآل إلا الثواب والعقاب .

ومن أين يعلم أن الله تعالى يثيب على المعصية والطاعة ، ولا يعاقب عليهما مع أن الطاعة والمعصية في حقه يتساويان ; إذ ليس له إلى أحدهما ميل ولا به لأحدهما اختصاص ، وإنما عرف تمييز ذلك بالشرع ولقد زل من أخذ هذا من المقايسة بين الخالق والمخلوق ، حيث يفرق بين الشكر والكفران لما له من الارتياح والاهتزاز والتلذذ بأحدهما دون الآخر .

التالي السابق


(الأصل الثامن: أن معرفة الله سبحانه) بتوحيده واتصافه بصفات الكمال، وطاعة أوامره (واجبة) على كل مكلف اتفاقا، ولكن وجوبها عند أهل الحق (بإيجاب الله تعالى وشرعه) بواسطة رسله الكرام، (لا بالعقل) أي: مما يجب الإيمان به أن العقل لا يستقل بإدراك المؤاخذة الشرعية المتعلقة بالفعل والترك، فلا تحسين ولا تقبيح بالعقل، وهذا الأصل هو الملقب بالتحسين والتقبيح العقليين، وعليه يترتب ما ذكره المصنف قبل هذا في الأصلين من مسألة التكليف، وإيلام البهائم، ولذا قيل: إن تقديم هذا البحث عليهما كان أحسن، وقد لاحظ ذلك ابن الهمام في المسايرة، فأورد الكل في أصل واحد، وحاصل الكلام فيه أن أهل السنة والجماعة من الأشاعرة اتفقوا على أن الأفعال توصف بالحسن والقبح، لكن لا لذواتها، ولا لأوصافها، ولا لاعتبارات تلحقها، وإنما توصف من حيث تعلق خطاب الشرع بها، فإن تعلق بها نهي فهي قبيحة، فإذا القبيح ما نهى الشارع عنه، وإن لم يتعلق بها نهي فهي حسنة، فإذا الحسن ما لم ينه الله عنه، فالحسن راجع إلى كون الفعل لم يتعلق به نهي، والقبيح راجع إلى كون الفعل تعلق به نهي، فنفس الفعل أوجب له هذا الحكم من الحسن والقبح الذي هو محل النزاع (خلافا للمعتزلة) جمهورهم، وللماتريدية على ما سيأتي بيان أقوالهم في ذلك، والدليل عليه من النقل والعقل، ولما كان الدليل النقلي الذي هو قوله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث ، يحتمل العذاب الدنيوي، ويحتمل العذاب الأخروي، أعرض عنه وتمسك بدليل العقل، فقال: (لأن العقل) إذا كان موجبا (إن أوجب الطاعة) لله تعالى (فلا يخلو فإما أن يوجبها لغير فائدة) عاجلة أو آجلة (وهو محال; فإن العقل لا يوجب العبث) وهو ما لا فائدة فيه (وإما أن يوجبها) أي: الطاعة (لفائدة، وغرض، وذلك لا يخلو إما أن يرجع) ذلك الغرض (إلى المعبود) جل وعز (وذلك محال; فإنه) تعالى (يتقدس) ويتنزه (عن الأغراض والفوائد) إذ الغرض هو الحامل للفاعل على تحصيل كمال عنده أو به، أو دفع نقص كذلك، وكل ذلك يستحيل على الباري جل وعز، (بل الكفر والإيمان والطاعة والعصيان في حقه تعالى سيان) أي: متساويان (وإما أن يرجع إلى غرض العبد، وهو محال) أيضا; (لأنه) لا يخلو إما أن يكون في الحال أو في المآل، ومن المعلوم البين أنه (لا غرض له في الحال، بل يتعب به) ويقع في تكليف ومشقة (وينصرف عن الشهوات) النفسية (بسببه و) أيضا له غرض في المآل; لأنه (ليس في المآل) أي: في الآخرة (إلا الثواب والعقاب) على الطاعة والعصيان (ومن أين يعلم) للعبد، بالبناء للمفعول [ ص: 191 ] واللام مفتوحة (أن الله) تعالى (يثيب) أي: يجازي (على المعرفة والطاعة، ولا يعاقب عليه) أي: على كل منهما، ولا طريق إلى العلم بذلك (مع أن الطاعة والمعصية في حقه يتساويان; إذ ليس له إلى أحدهما ميل) يعرف به (ولا به) أي: بالعبد (لأحدهما اختصاص، وإنما عرف تمييز ذلك) من بعضه (بالشرع) على لسان الرسل، فثبت بذلك أن الموجب هو الشرع، لا العقل، ومنهم من أخذ هذه المسألة بالمقايسة بين الشاهد والغائب، وقد رد عليه المصنف بقوله: (ولقد زل) أي: وقع في الزلل (من أخذ هذا من المقايسة بين الخالق والمخلوق، حيث يفرق المخلوق) ويميز (بين الشكر والكفران) والشكر هو تصور النعمة وإظهارها، والكفران نسيان النعمة وسترها; (لما له من الارتياح) والانبساط (والاهتزاز) والاهتشاش (والتلذذ بأحدهما دون الآخر) وغاية ما يقال فيه: إنه يرجع إلى ملاءمة الطبع، وليس هذا محل النزاع .

وقال أبو الخير القزويني: من شرط الموجب أن يكون حيا عالما ملكا قادرا على الثواب والعقاب، والعقل عرض يستحيل أن يتصف بصفة ما، وأيضا فإن العقل لو صلح للإيجاب بشيء لصلح إيجاب جميع الواجبات، وأيضا نحن نرى فعلين متماثلين، وأحدهما حسن، والآخر قبيح، كالوطء نكاحا، والوطء سفاحا، وكالقتل ابتداء، والقتل احتذاء، فدل على أن الحسن والقبح بإثبات الشرع فقط. اهـ .

وأوسع الكلام في إبطال هذه المسألة ابن التلمساني في شرح اللمع، فقال: اعلم أن الحسن والقبيح يطلقان باعتبارات ثلاثة، الأول: الحسن هو الملائم للغرض، والقبيح هو المخالف للغرض، والملاءمة ترجع إلى ميل النفس والطبع، وهما بهذا الاعتبار يرجعان إلى أمر عرفي مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، وتفسير الحسن والقبح بهذا الاعتبار لا نزاع فيه. الثاني: الحسن كل صفة كمال، كالعلم بنوعه، والقبح ضده، كالجهل بنوعه، وهذا عقلي لا نزاع فيه أيضا. الثالث: الحسن ما ينال فاعله الثناء من الله تعالى، والثواب أو اللوم والعقاب على تركه في الدنيا والآخرة، والقبيح ضده، وهذا محل النزاع; فالأشعرية تقول: إن ذلك يرجع إلى وقوع جائز غيبي، ووقوع الجائزات الغيبية لا يهتدى إليه إلا بإنباء الصادق عادة .

والمعتزلة والخوارج والكرامية تقول: إن الباري تعالى حكيم، وإن الحكيم لا يفعل ولا يأمر ولا ينهى إلا على وفق الحكمة، والباري لا ينتفع ولا يتضرر، فتعين حصر الصلاح فيما يرجع إلى جلب نفع للعبيد، أو دفع ضرر عنهم، قالوا: وإذا كان مضمون الفعل مصلحة خالصة، أو راجحة، فالحكيم لا بد أن يرجح فعله على تركه، وإن كان مضمونه مفسدة خالصة أو راجحة فالحكيم لا بد أن يرجح تركه على فعله، وإن استوت جهة المصلحة والمفسدة فيه فموجب ذلك التخيير، فإذا وقفنا بعقولنا على شيء من ذلك إما بضرورة أو نظر حكمنا به، وإن وقفت العقول عن إدراك شيء من ذلك تلقيناه من الشارع; فالشرع مخبر عن حال المحل، كالحكيم الذي يخبر عن هذا العقار أنه بارد أو حار، لا أنه يثبت حكما في المحل، وعلى هذا الأصل يعسر عليهم القول بالقبح .

ثم قسموا الأفعال إلى ثلاثة أقسام، منها ما يدرك حسنه وقبحه بالضرورة، كحسن الصدق النافع، وقبح الكذب الضار، ومنها ما يدرك حسنه وقبحه بالنظر، كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع، ومنها ما لا يستقل العقل بإدراك حسن فيه ولا قبح حتى يرد الشرع فيه، كحسن صوم آخر يوم من شهر رمضان، وقبح صوم أول يوم من شوال .

وقد تمسك الأصحاب في الرد عليهم بالمناقضة العرفية والمذهبية والعقلية، فأما العرفية فقالوا: ادعيتم إدراك حسن بعض الأفعال وقبحها بضرورة العقل، وحكم الضروري ألا تختلف فيه العقلاء عادة وعرفا، ونحن نخالفكم، ولا يمكنكم حمل ذلك على العناد; فإن العادة تحيل مثل ذلك من الجماء الغفير مع توالي العصور ومر الدهور. قالوا: إنا لم نخالفكم في شيء البتة; فإنا نحسن جميع ما تحسنونه، ونقبح جميع ما تقبحونه، وإنما الخلاف في المدرك، فنحن نقول: إنه من العقل; وأنتم تقولون: إنه من الشرع، ولا يبعد الاختلاف في المدرك بعد الاتفاق على أصل الحكم، كاختلافكم مع الكعبي في أن خبر التواتر يفيد العلم ضرورة أو نظرا .

وأجاب الأصحاب بوجهين، أحدهما: أنا لم نتفق قط في صورة [ ص: 192 ] إلا في اللفظ، والحسن منا ومنكم مقول بالاشتراك اللفظي، فنحن نقول: إنه يرجع إلى تعلق الخطاب والقول، ولا يكتسب المقول من القول صفة، كما لا يكتسب المعلوم من العلم صفة، وأنتم تزعمون أنه صفة في المحل نفسه، أو تابعة له في الحدوث عند الجمهور منكم، ونحن ننفي القسمين معا .

الثاني: أنا لا نسلم الكلية; فإنه يحسن عندنا من الله تعالى إيلام البرايا من غير جرم سابق، ولا التزام عوض لاحق، وأنتم لا تقضون بحسنه من الله تعالى إلا بأحد الأمرين، فلم نتفق في كل صورة، وأما المناقضة المذهبية فقالوا: ادعيتم أن الإيلام قبيح، وأنه يحسن للنفع الراجح، وادعيتم أن الكذب قبيح، وأنه لا يحسن في النفع الراجح، ومن صور ذلك أن يكون فيه نجاة نبي، فقال أبو هاشم: التزم التسوية بين الصورتين، واحكم أن الكذب يحسن في مثل هذه الصورة. فقيل له: إذا قلت: إن من جنس الكذب ما يوصف بالحسن، ومن أصلك أن كل حسن يصح من الله فعله، والمتكلم على أصلك من فعل الكلام، لا من قام به، فجوز أن يخلق الله تعالى كذبا نافعا ويتصف به. فتبلد ولم يجد جوابا، وأما المناقضة العقلية -وهو أن القتل ابتداء كالقتل بناء- فإنهما مستويان في الصورة والصفة، بدليل أن الغافل في المستند فيهما، وقد قضيتم بقبحه ابتداء، وبحسنه بناء، وحكم المثلين ألا يفترقا في صفات النفس، ولا ما يلازم النفس .



وللمعتزلة شبه:

الأولى: قالوا: إن العقلاء مجمعون على تحسين الصدق النافع، وتقبيح الكذب الضار، والظلم الذي لا ينتفع به الظالم، وتحسين شكر المنعم، وإنقاذ الهلكى والغرقى، قالوا: وقد اعترف بذلك من ينفي الشرائع من البراهمة، فدل على أنه من موجبات العقول، قلنا: ذلك يرجع إلى الملاءمة والمنافرة، ونحن نسلمه، ومحل النزاع غير ذلك، وهو أنه إذا فعل شيئا من ذلك يثاب عليه في الآخرة، أو يعاقب على تركه، ومجرد العقل لا يهتدي لذلك، وأما قولكم: إن البراهمة حسنت بعقولها; قلنا: جهلوا كجهلكم، كما أنهم قبحوا إيلام البهائم مطلقا، وأنتم تحسنونه بجناية سابقة، أو التزام عوض لاحق .

الشبهة الثانية: قالوا: من له غرض يناله إن صدق أو كذب فإنه يختار الصدق على الكذب، ما ذاك إلا لحسنه عقلا. قلنا: موجبه اعتقاد الشرائع. قالوا: نفرضه فيمن لم يعتقد ذلك. قلنا: لاعتقاده موجب مذهبكم. قالوا: نفرضه فيمن نشأ في جزيرة ولم يتصل به شرع ولا خالط غيره من أرباب المذاهب. قلنا: إذا بالغتم في الفرض إلى هذه الصورة فحينئذ يمنع ترجيحه للصدق .

والشبهة الثالثة: قالوا: لو حسن من الله كل شيء لحسن منه خلق المعجزة على يد الكاذب، وحينئذ لا يتميز النبي على المتنبئ. قلنا: من صار من أصحابنا إلى أن دلالة المعجزة عقلية فإنه يمنع صدور ذلك على يد الكاذب; لأن الدلالة العقلية تدل لنفسها، فلو وجدت غير دالة لانقلب الدليل شبهة، والعلم جهلا، وقلب الأجناس محال، ومن صار إلى أن دلالتها عادية جوز صدورها على يد الكاذب. قال: والجواز للعقل لا يمنع القطع بالدلالة; بناء على استمرار العادة، كما أنا نقطع بأن كل إنسان نشاهده مخلوق من أبوين، وإن جوزنا خلقه من غير تردد في أطوار الخلقة، وذلك الجواز لا يمنعنا من الجزم .

الشبهة الرابعة: قالوا: لو لم يكن الكذب قبيحا لعينه لجاز أن يخلق الله تعالى كذبا ويتصف به. قلنا: هذا لازم أصلكم; فإنكم تزعمون أن المتكلم من فعل الكلام، ونحن نقول: المتكلم من قام به الكلام، وكلام الله تعالى أزلي متصف بالصدق، ويستحيل وصفه بالكذب; لما فيه من النقص. اهـ .

وقال شارح الحاجبية: لو حسن الفعل أو قبح لذاته لما اختلف; لأن ما بالذات لا يختلف، لكنه قد اختلف، كالقتل ظلما، وحدا، والضرب تعذيبا، وتأديبا، وأيضا لو حسن الفعل أو قبح لغير الطلب لم يكن تعلق الطلب لنفسه; لتوقفه على أمر زائد على ذلك التقدير، وهو الحسن والقبح، والتالي باطل; لما يلزم عليه من تخلف الصفات النفسية، فالمقدم مثله. اهـ .



(فصل)

وحاصل ما في المسايرة وشرحه ما نصه: لا نزاع في استقلال العقل بإدراك الحسن والقبح، بمعنى صفة الكمال والنقص، كالعلم والجهل، والعدل والظلم، ورد شرع أم لا، وكذا بمعنى ملاءمة الغرض وعدمها، كقتل زيد بالنسبة إلى أعدائه وأوليائه وفاقا منا ومن المعتزلة، وإنما النزاع باستقلاله بدركه في حكم الله تعالى، [ ص: 193 ] فقالت المعتزلة: نعم، يجزم العقل بثبوت حكم الله تعالى في الفعل بالمنع على وجه ينتهض سببا للعقاب إذا أدرك قبحه، وبثبوت حكمه تعالى فيه بالإيجاب له، والثواب بفعله، والعقاب بتركه إذا أدرك حسنه على وجه يستلزم تركه قبحا، كشكر المنعم; بناء منهم على أن للفعل في نفسه حسنا وقبحا ذاتيين، أي: تقتضيهما ذات الفعل، كما ذهب إليه قدماؤهم، أو لأجل صفة فيه حقيقة توجبها له، كما ذهب إليه الجبائية، وبأنه قد يستقل بدركهما العقل، فيعلم حكم الله تعالى باعتبارهما فيه، وقد لا يستقل، فلا يحكم فيه بشيء حتى يرد الشرع .

وقالت الأشاعرة قاطبة: ليس للعقل نفسه حسن وقبح ذاتيان، ولا لصفة توجبهما، وإنما ورد الشرع بإطلاقه وقبحه وروده بحظره، وإذا ورد بذلك حسناه أو قبحناه بهذا المعنى، فحاله بعد ورود الشرع بالنسبة إلى الوصفين كحاله قبل وروده، فلا يجب قبل البعثة شيء، لا إيمان ولا غيره، ولا يحرم كفر .

وقالت الحنفية قاطبة بثبوت الحسن والقبح للعقل على الوجه الذي قالته المعتزلة، ثم اتفقوا على نفي ما بنته المعتزلة على إثبات الحسن والقبح للفعل من القول بوجوب الأصلح، ووجوب الرزق، والثواب على الطاعة، والعوض في إيلام الأطفال والبهائم، والعقاب بالمعاصي إن مات بلا توبة; بناء على منع كون مقابلاتها خلاف الحكمة. بل قالوا: ما ورد به السمع من وعد الرزق، والثواب على الطاعة، وألم المؤمن والطفل، حتى الشوكة يشاكها، محض فضل وتطول منه، لا بد من وجوده; لوعده، وما لم يرد به سمع، كتعويض البهائم على آلامها، لم نحكم بوقوعه، وإن جوزناه عقلا، ولا أعلم أحدا منهم جوز عقلا تكليف ما لا يطاق، فهم في هذا مخالفون للأشعرية، ومع القول بالحسن والقبح العقليين اختلفوا: هل يترتب على العلم بثبوت أحدهما أن يعلم حكم الله في ذلك الفعل تكليفي، فقال الأستاذ أبو منصور الماتريدي وعامة مشايخ سمرقند، نعم يعلم على هذا الوجه وجوب الإيمان بالله وتعظيمه وحرمة نسبة ما هو شنيع إليه تعالى، كالكذب والسفه، ووجوب تصديق النبي، وهو معنى شكر المنعم، وروى الحاكم الشهيد في المنتقى عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال: لا عذر لأحد في الجهل بخالقه; لما يرى من خلق السموات والأرض، وخلق نفسه وسائر مخلوقاته، وعنه أيضا: لو لم يبعث الله رسولا لوجب على الخلق معرفته بعقولهم، ونقل هؤلاء مذهب المعتزلة على خلاف المهيع الأول، قالوا: العقل عندهم إذا أدرك الحسن والقبيح يوجب بنفسه على الله وعلى العباد مقتضاهما .

وعندنا معشر الحنفية الموجب لمقتضى الحسن والقبح هو الله تعالى، يوجبه على عباده، ولا يجب عليه شيء باتفاق أهل السنة، والعقل عندنا آلة يعرف به ذلك الحكم بواسطة أن يطلعه الله على الحسن والقبح الكائنين في الفعل، وإذا لم يوجب العقل ذلك لم يبق دليل على الحكم للأفعال من ذلك وغيره إلا السمع، وقد قام دليل السمع على عدم تعلق الحكم بالعباد قبل البعثة، قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ، وجه الاستدلال أنه نفى العذاب مطلقا في الدنيا والآخرة، وذلك نفي لازم الوجوب والحرمة، وانتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، وحمل بعضهم العذاب في الآية على عذاب الدنيا، وهو مدفوع بأنه تخصيص بغير دليل، وخلاف مقتضى إطلاق لفظ العذاب بلا موجب يقتضي التخصيص. اهـ .




الخدمات العلمية