الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولقوله تعالى : في خطاب موسى عليه السلام لن تراني وليت شعري كيف عرف المعتزل من صفات رب الأرباب ما جهله موسى عليه السلام وكيف سأل موسى عليه السلام الرؤية مع كونها محالا ؟ ولعل الجهل بذوي البدع والأهواء من الجهلة الأغبياء أولى من الجهل بالأنبياء صلوات الله عليهم .

التالي السابق


وقد أورد المصنف على جوازه دليلا من الكتاب، وأوردنا معه دلائل من آخر الكتاب، ثم أورد دليلا ثانيا، فقال (ولقوله تعالى: في خطاب موسى عليه السلام) حكاية عنه إذ قال: رب أرني أنظر إليك قال ( لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ) ووجه الاستدلال من وجهين: أحدهما أنه لو لم تجز الرؤية لما طلبها موسى -عليه السلام-، واللازم باطل بالإجماع، وتواتر الأخبار بيان اللزوم أن موسى -عليه السلام- عالم بما يجوز على الله تعالى وما يستحيل عليه، وإلا يلزم الجهل، وهو محال على الأنبياء، وإذا كان عالما بما لا يجوز والرؤية مما لا يجوز على ذلك التقدير يكون طلبه للرؤية عبثا، وذلك على الأنبياء محال، وإليه أشار المصنف بقوله (وليت شعري كيف عرف المعتزلي) القائل بعدم جواز الرؤية (من صفات رب الأرباب ما جهله موسى عليه السلام) مع أنه نبي كريم من أولي العزم من الرسل؟ أرأيت المعتزلي أعرف بالله تعالى منه؟ مع أن المقصود من بعثة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الدعوة إلى العقائد الدينية الحقة والأعمال الصالحة .

(وكيف سأل موسى -عليه السلام- الرؤية مع كونها محالا؟ ولعل الجهل بذوي البدع) المضلة (والأهواء) المختلفة (من الجهلة) بمعاني كلام الله تعالى (الأغبياء) البلداء (أولى من الجهل بالأنبياء صلوات الله عليهم) وسلامه، وحاصل هذا الاستدلال أن سؤال موسى -عليه السلام- إياها دليل على أنه كان يعتقد أنه كان جائز الرؤية، والوجه الثاني أنه تعالى علق الرؤية بشرط متصور الكون، وهو استقرار الجبل، فدل على أنه جائز الوجود، إذ تعليق الفعل بما هو جائز الوجود يدل على جوازه، كما أن التعليق بما هو ممتنع الوجود أو متحقق الوجود يدل على امتناعه أو تحققه، والدليل على أن استقرار الجبل ممكن الثبوت قوله تعالى: فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ، أخبر أنه جعله دكا لا أنه اندك بنفسه، وما أوجده الله تعالى كان جائزا ألا يوجد لو لم يوجده الله تعالى، إذ الله تعالى مختار فيما يفعل، فإذا جعل الجبل دكا باختياره وكان جائزا ألا يفعل دل على جواز وجوده، قاله النسفي، وفي الآية وجوه أخر دالة على جوازها، منها أنه تعالى ما أيسه وما عاتبه عليه، ولو [ ص: 115 ] كان ذلك جهلا منه بالله تعالى خارجا عن الحكمة لعاتبه كما عاتب نوحا -عليه السلام- بقوله: إني أعظك أن تكون من الجاهلين ، حيث سأل إنجاء ابنه من الغرق، بل هذا أولى بالعتاب; لأن هذا لو كان جهلا منه بربه لبلغ مرتبة الكفر، وذلك لم يبلغ هذه الرتبة .

فإن قالوا: مراده: أرني آية من آياتك؛ قلنا: لو كان المراد كذلك لقال: أنظر إليها، ولقال: لن ترى آياتي، ومنها قوله: لن تراني ؛ فإنه يقتضي نفي الوجود، لا الجواز، إذ لو كان ممتنع الرؤية لكان الجواب أن يقول: لست بمرئي، أو لا تصح رؤيتي، ولما لم يقل ذلك دل على أنه مرئي، إذ الموضع موضع الحاجة إلى البيان، ألا ترى أن من في كمه حجر فظنه إنسان طعاما وقال له: أعطنيه لآكله، كان الجواب الصحيح أنه لا يؤكل؟ أما إذا كان طعاما صح أن يقول المجيب: إنك لن تأكله، ويجوز على الأنبياء الريب في أمر يتعلق بالغيب، فيحمل على أن ما اعتقد جائز، ولكن ظن أن ما اعتقد جوازه تأخر فيرجع النفي في الجواب إلى السؤال، وقد سألها في الدنيا، فينصرف النفي إليها، إذ الجواب يكون على قضية السؤال، فتأمل .




الخدمات العلمية