الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال قائلون : القول ركن إذ ليس كلمتا الشهادة إخبارا عن القلب بل هو إنشاء عقد آخر وابتداء شهادة والتزام ، والأول أظهر وقد غلا في هذا طائفة المرجئة فقالوا : هذا لا يدخل النار أصلا ، وقالوا : إن المؤمن وإن عصى فلا يدخل النار وسنبطل ذلك عليهم .

الدرجة السادسة أن : يقول بلسانه لا إله إلا الله محمد رسول الله ولكن لم يصدق بقلبه فلا نشك في أن هذا في حكم الآخرة من الكفار ، وأنه مخلد في النار ولا نشك في أنه في حكم الدنيا للذي يتعلق بالأئمة والولاة من المسلمين لأن قلبه لا يطلع عليه وعلينا أن نظن به أنه ما قاله بلسانه إلا وهو منطو عليه في قلبه وإنما نشك في أمر ثالث ، وهو الحكم الدنيوي فيما بينه وبين الله تعالى .

وذلك بأن يموت له في الحال قريب مسلم ثم يصدق بعد ذلك بقلبه ، ثم يستفتي ويقول : كنت غير مصدق بالقلب حالة الموت والميراث الآن في يدي فهل يحل لي بيني وبين الله تعالى أو نكح مسلمة ثم صدق بقلبه هل تلزمه إعادة النكاح هذا محل نظر فيحتمل أن يقال أحكام الدنيا منوطة بالقول الظاهر ظاهرا وباطنا ويحتمل أن يقال تناط بالظاهر في حق غيره ; لأن باطنه غير ظاهر لغيره وباطنه ظاهر له في نفسه بينه وبين الله تعالى والأظهر والعلم عند الله تعالى أنه لا يحل له ذلك الميراث ويلزمه إعادة النكاح ولذلك كان حذيفة رضي الله عنه لا يحضر جنازة من يموت من المنافقين وعمر رضي الله عنه كان يراعي ذلك منه فلا يحضر إذا لم يحضر حذيفة رضي الله عنه والصلاة فعل ظاهر في الدنيا ، وإن كانت من العبادات .

والتوقي عن الحرام .

.

التالي السابق


(وقال قائلون: القول) أي: النطق اللساني بالشهادتين (ركن) من الإيمان (إذ ليس كلمتا الشهادة إخبارا عن القلب) أي: عما في القلب (بل هو إنشاء عقد وابتداء شهادة والتزام، والأول أظهر) ، أي: كونه إخبارا عن القلب باعتبار أن اللسان ترجمانه، وممن ذهب إلى هذا القول الكرامية، ومن وافقهم جعلوا القول ركنا في مفهوم الإيمان فلا يثبت الإيمان إلا به .

(وقد غلا في هذا) ، أي فيمن صدق بالقلب، وامتنع عن النطق مع علمه بوجوبه، ومساعدة الوقت له (طائفة المرجئة) من طوائف المبتدعة الذين من فضائحهم قولهم: إنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، (فقالوا: هذا لا يدخل النار أصلا، وقالوا: إن المؤمن وإن عصى فلا يدخل النار) لما تقدم من زعمهم أن المعصية لا تضر مع الإيمان، وهنا قد وجد الإيمان غير أنه عصى بامتناعه عن النطق، (وسنبطل ذلك عليهم) قريبا .

(الدرجة السادسة: أن يقول بلسانه) كلمتي الشهادة: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم، (ولكن لم يصدق) بما جاء به الرسول (بقلبه) أي لم يستقر ذلك التصديق بقلبه (فلا نشك في أن هذا في حكم الآخرة من الكفار، وأنه مخلد في النار) ; لأنه قد عدم مسمى الإيمان الذي هو التصديق، (ولا نشك في أنه) أي المذكور (في حكم الدنيا التي تتعلق بالأئمة) والخلفاء والملوك، (والولاة) للأمر من طرف الأئمة يعد (من) جملة (المسلمين) ; لأنه ليس لهم إلا الظواهر والتصديق محله القلب; (لأن قلبه) الذي هو محل التصديق (لا يطلع عليه) ; لأنه أمر غيب عنا وما كلفنا باطلاعه، وإنما الحكم عليه بالأمارات، (وعلينا أن نظن به) إحسانا، (أنه ما قاله) ، أي القول المذكور من أداء الشهادتين (بلسانه إلا وهو منطو عليه في قلبه) ، وهذا ظاهر (وإنما نشك في أمر ثالث، وهو الحكم الدنيوي فيما بينه وبين الله تعالى، وذلك بأن يموت له في الحال) الذي هو فيه (قريب مسلم) ممن يرثه، (ثم يصدق) ، أي يأتي بالتصديق (بعد ذلك بقلبه، ثم يستفتي) أهل العلم [ ص: 247 ] في حادثته، (ويقول: كنت غير مصدق بالقلب حالة الموت) أي موت ذلك القريب الذي ورثته، وإنما كنت مسلما باللسان فقط، (والميراث الآن في يدي فهل يحل لي) أخذه والتصرف فيه (بيني وبين الله) أم لا؟ (أو نكح مسلمة) وهو يتستر بالإسلام، (ثم يصدق) أي يحل التصديق في قلبه، (هل تلزمه إعادة النكاح) أم لا؟

(هذا محل النظر) ومثار التأمل (فيحتمل أن يقال) في الجواب: (أحكام الدنيا منوطة) ، أي: معلقة (بالقول الظاهر) الذي هو النطق بالشهادتين، وعليه يترتب الحكم (ظاهرا وباطنا) فعلى هذا له أخذ الميراث، وإبقاء المسلمة على النكاح الأول، بالنظر إلى الدنيا وبالنظر إلى الآخرة، (ويحتمل أن يقال) : إنما (يناط بالظاهر) إذا أفتي (في حق غيره; لأن باطنه غير ظاهر لغيره) ، محجوب عنه، (و) إن (باطنه ظاهر له في نفسه) ، يدرك ما انطوت عليه (بينه وبين الله تعالى) .

(والأظهر) في المقام، وإن كان الأول ظاهرا كذلك، (والعلم عند الله تعالى) أتى بهذه الجملة تبركا وتبريا من علمه إلى علم الله تعالى، أي: علمه محيط بكل شيء، وهذا نظير ما يقول المفتي في آخر جوابه: والله أعلم، فيكل علمه إلى علم الله تعالى، ويتبرأ من أن يقول في دين الله ما ليس مطابقا لما هو في نفس الأمر، (أنه لا يحل له) أخذ (ذلك الميراث) ; لأنه لم يأخذه بحق القرابة في الحقيقة، ولا توارث مع اختلاف الملل، (ويلزمه إعادة النكاح) ، وتجديدها، هذا ما اقتضاه التقوى، والأول ما أجازه الفتوى; (ولذلك كان حذيفة) بن اليمان العبسي حليف بني عبد الأشهل (رضي الله عنه) من خيار الصحابة، وزهادهم، ولاه عمر المدائن، وله فتوحات، مات سنة ست وثلاثين، بعد مقتل عثمان بأربعين يوما (لا يحضر) الصلاة على (جنازة من مات من المنافقين) ، وكان قد أعطي علمهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة .

(وعمر) بن الخطاب (رضي الله عنه) مع جلالة قدره (كان يراعي ذلك فلا يحضر) جنازة (من مات بالمدينة إذا لم يحضر حذيفة رضي الله عنه) ; خشية أن يكون منافقا، (والصلاة) على الجنازة (فعل ظاهر في الدنيا، وإن كان من العبادات والتوقي عن الحرام) والشبهات .




الخدمات العلمية