الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومعنى كون الشيء واجبا أن في تركه ضررا ومعنى كون الشرع موجبا أنه معرف للضرر المتوقع فإن العقل لا يهدي إلى التهدف للضرر بعد الموت ، عند اتباع الشهوات فهذا معنى الشرع والعقل وتأثيرهما في تقدير الواجب ، ولولا خوف العقاب على ترك ما أمر به لم يكن الوجوب ثابتا إذ لا معنى للواجب إلا ما يرتبط بتركه ضرر في الآخرة .

التالي السابق


ثم أشار المصنف إلى إبطال إيجاب العقل، فقال: (ومعنى كون الشيء واجبا أن في تركه ضررا) ويكون تاركه ملوما (ومعنى كون الشرع موجبا أنه معرف للضرر المتوقع) في تركه; (فإن العقل) بمجرده (لا يهدي) أي: لا يرشد (إلى التهدف) كونه هدفا (للضرر بعد الموت، عند اتباع الشهوات) والملذوذات (فهذا معنى) إيجاب (الشرع والعقل وتأثيرهما في تقدير الواجب، ولولا خوف العقاب على ترك ما أمر به) ورجاء الثواب على فعل ما أمر به (لم يكن الوجوب ثابتا) في الحقيقة (إذ لا معنى للواجب إلا ما يرتبط) أي: يتعلق (بتركه ضرر في الآخرة) فهذا هو محل النزاع، والحاصل أن كل الواجبات تثبت ابتداء جبرا بحكم المالكية المقتضية لاستحقاق امتثال الأمر والنهي دون أمر يتوقف عليه الوجوبات، بل هي متعلقة أزلا بمتعلقاتها من أفعال العباد دون ترتيب، ولكن يتوقف تعلقها التنجيزي على فهم الخطاب بالإبلاغ، وقد تحقق كل ذلك في حق من أخبره بذلك الإيجاب بخير; لانتفاء الغفلة عنه بذلك الإخبار، غير أن هذا التعلق التنجيزي قد يكون تعلقا بالواجب الذي هو النظر في دليل صدق المبلغ في دعواه النبوة، وقد يكون تعلقا بغير ذلك النظر من الواجبات، فأما تعلق الوجوب بالنسبة إلى غير الواجب الذي هو النظر في دليل صدق المبلغ في دعواه النبوة من الواجبات فإنه يتحقق بعد ثبوت صدقه في دعوى النبوة، وأما تعلق الوجوب في النظر في المعجزة فبمجرد الإخبار بذلك الوجوب لا يقدر المخاطب بالخبر في عدم الالتفات إليه بعدما جمع له من الإبلاغ وآلة الفهم، وهو العقل المجوز لما ادعاه المخبر; لأنه -أي: عدم الالتفات إليه بعدما جمع له من الأمرين ـ جرى على خلاف مقتضى نعمة العقل; فإن مقتضاها استعمالها في جلب ما ينفع، ودفع ما يضر، فلا يعذر في عدم الالتفات المذكور، وبه يندفع الاعتراض بلزوم الإفحام .

وللمصنف - رحمه الله تعالى- في كتاب الاقتصاد كلام موضح لهذا المحل، ملخصه أن الوجوب معناه رجحان الفعل على الترك; لدفع ضرر في الترك موهوم أو معلوم، والموجب هو الله تعالى; لأنه المرجح، ومعنى قول الرسول: إن النظر في المعجزة واجب; هو أنه مرجح على تركه بترجيح الله إياه; فالرسول يخبر عن الترجيح، والمعجزة دليل صدقه في إخباره، والنظر سبب لمعرفة الصدق، والعقل آلة للنظر ولفهم معنى الخبر، والطبع مستحث على الحذر عن الضرر بعد فهم المحذور بالعقل، وبهذا تبين أن مدخل العقل من جهة أنه آلة للفهم، لا أنه موجب .



(تنبيه)

قال ابن الهمام: اعلم أن محل الاتفاق في الحسن والقبح العقليين إدراك العقل قبح الفعل بمعنى صفة النقص، وحسنه بمعنى صفة الكمال، وكثيرا ما يذهل أكابر الأشاعرة عن محل النزاع في مسألتي التحسين والتقبيح العقليين; لكثرة ما يشعرون النفس ألا تحكم للعقل بحسن ولا قبح، فذهب لذلك عن خاطرهم محل الاتفاق حتى تحير كثير منهم في الحكم باستحالة الكذب عليه تعالى; لأنه نقص، حتى قال بعضهم: ونعوذ بالله ممن قال: لا تتم استحالة النقص عليه تعالى إلا على رأي المعتزلة القائلين بالقبح العقلي، وحتى قال إمام الحرمين: لا يمكن التمسك في تنزيه الرب جل جلاله عن الكذب بكونه نقصا; لأن الكذب عندنا لا يقبح لعينه. وحتى قال صاحب التلخيص:

[ ص: 196 ] الحكم بأن الكذب نقص إن كان عقليا كان قولا بحسن الأشياء وقبحها عقلا، وإن كان سمعيا لزم الدور .

وقال صاحب المواقف: لم يظهر لي فرق بين النقص في الفعل والقبح العقلي; فإن النقص في الأفعال هو القبح العقلي. اهـ .

وكل هذا منهم للغفلة عن محل النزاع، حتى قال بعض محققي المتأخرين منهم - وهو السعد- في شرح المقاصد، بعدما حكى كلام هؤلاء المذكورين، ما نصه: وأنا أتعجب من كلام هؤلاء المحققين، كيف لم يتأملوا أن كلامهم هذا في محل الوفاق، لا في محل النزاع؟ اهـ .

قال ابن أبي شريف: فإن قيل: محل النزاع ومحل الوفاق إنما هما في أفعال العباد، لا في صفات الباري سبحانه; قلت: الاختلاف بين الأشاعرة وغيرهم في أن كل ما كان وصف نقص في حق العباد فالباري تعالى منزه عنه، وهو محال عليه، والكذب وصف نقص في حق العباد، فإن قيل: لا نسلم أنه وصف نقص في حقهم مطلقا; لأنه قد يحسن، بل قد يجب في الإخبار لسائل عن موضع معصوم يقصد قتله عدوانا; قلنا: لا خفاء في أن الكذب وصف نقص عند العقلاء، وخروجه لعارض الحاجة للعاجز عن الواقع إلا به لا يصح فرضه في حق ذي القدرة الكاملة الغني مطلقا سبحانه; فقد تم كونه وصف نقص بالنسبة إلى جناب قدسه تعالى، فهو مستحيل في حقه عز وجل .



(فصل)

وهذا الدليل الذي سقناه في أول الأصل هو متمسك المحدث، وأما الصوفي فيقول: الأفعال كلها نسبتان: نسبة التكوين، ونسبة التكليف، أما نسبة التكوين فعامة; لما تقدم من أن الأفعال كلها فعل الله تعالى، وقد قال تعالى: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ، فالأفعال بهذه النسبة لا توصف بحسن ولا قبح لاستواء الإيجاد، بل هي حسنة من حيث علم الفاعل وإرادته، وأما نسبة التكليف -وهي الطلب- فهي مختصة بأفعال المكلف، وهو الملك والجن والعاقل البالغ من الإنس، ومن المعلوم أن الطلب للشيء فرع العلم به، ولا علم للحقيقة إلا لله تعالى، فلا تكليف ولا طلب إلا لله تعالى، وقد انقسمت التكاليف إلى طلب فعل، وطلب ترك، فما تعلق الطلب بفعله جعله الشارع حسنا يطلبه، وما تعلق بتركه جعله الشارع قبيحا يطلب تركه، وما لم يتعلق بتركه ولا بفعله جعله الشارع حسنا لسلامته من طلب الترك، ولأنه يرجع إلى مطلوب الفعل بالنية، ولا شك أن العقل لا يهتدي لوقوع ممكن، والأفعال كلها ممكنة أن تكون حسنة أو قبيحة باعتبار ما يعرض لها من تعلق الطلب، وتعلق الطلب غيب، فلا يعلم إلا بالتوقيف السمعي النبوي، أو بما يؤول إليه، فإذا الحسن والقبح لا يدرك بمجرد العقل، فلا حسن ولا قبح عقلا، وهو المطلوب، والله أعلم .



(تكميل)

قد بقي على المصنف ذكر معتقدين لأهل السنة والجماعة، وهما مرتبان على إبطال التحسين والتقبيح العقليين، ونحن نذكرهما هنا لئلا يخلو كتابنا عن زوائد الفوائد، فنقول: ومن معتقد أهل السنة والجماعة أن الصانع جل وعلا لا يفعل شيئا لغرض; لأنه لو فعل لغرض لكان ناقصا لذاته، مستكملا بغيره، وهو محال، لا يقال: الغرض تحصيل مصلحة العبد; لأنا نقول: تحصيل مصلحة العبد وعدم تحصيلها إن استويا بالنسبة إليه لم يصلح أن يكون غرضا ذاتيا للفعل; لامتناع الترجيح بلا مرجح، وإن لم يستويا بأن يكون تحصيل المصلحة بالنسبة إليه أولى لزم الاستكمال بما هو أولى بالنسبة إليه، وأيضا فقد ثبت أنه تعالى قادر على أن يفعل ذلك الغرض من غير واسطة فعل، والعبث عليه محال إجماعا، واتفق عليه أهل السنة والجماعة، إلا ما نقله الفخر الرازي عن أكثر الفقهاء من ظاهر قولهم، حيث يشترطون في العلة الشرعية أن تكون بمعنى الباعث للشارع على شرع الحكم من جلب مصلحة ودفع مفسدة، والصواب أن ما يقع من الفقهاء من الغرض والتعليل ليس كما يقع من المعتزلة; فإن الذي يقع من الفقهاء في الأحكام الشرعية العملية لما يقولون مثلا: الحكم بالقصاص إنما ورد من الشارع للزجر عن القتل، وهذا هو الغرض منه; فحيث يطلقون ذلك فليس قصدهم بذلك أنه مما يجب أن يكون كذلك عقلا، وإنما يعتقدون أن ذلك كذلك بجعل الشارع، وأن الشارع جعل على سبيل التقرب والإحسان الأحكام مرتبطة إما بجلب مصالح العباد، أو دفع مفاسدهم، لا على جهة الوجوب العقلي، واستقراء حملة الشرع ذلك من تتبع أحكام الشرع أعطتهم تلك القواعد [ ص: 197 ] الكلية .

وقال الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى- في الفقه الأبسط: لا يطلب الله لاحتياج من العباد شيئا، إنما هم يطلبون منه الخير. فأشار بقوله الأخير إلى أن تعليل الإيجاب بالمنفعة ودفع الضرر مبني على كون أفعاله تعالى وأحكامه معللة بالأغراض، وهو فاسد; لاستلزام كونها علة لعلية الفاعلية، والاحتياج إليها في العلية، والله الغني عن العالمين، والمحدث يقول: اتفق السلف الصالح على أنه تنزه عن ذلك، وأما الصوفي فيقول: ترتيب المسببات عن أسبابها حكمة الأسماء الإلهية، والمسببات وأسبابها مستوية بالنسبة إلى العلم والإرادة والقدرة ضرورة إمكانها المقتضي لتعلقها بذلك، فما يصلح أن يكون مسببا عن شيء فمن حيث الحكمة الأسمائية حق، وبهذا جاء الشرع، ومن حيث الصفات المقتضيات للتكوين فلا سبب ولا مسبب لوجود ظهور الكل عن سبب الكل، فلم يبق السبب إلا من حيث ارتباط ظهور هذا عند ظهور هذا، من حيث تعلق الأسماء بها على ما سبق به العلم، وقوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، مع قوله تعالى: والله خلقكم وما تعملون ، يوضح لك المقصود، فاعرفه .

الثاني: ومما اتفق عليه أهل السنة والجماعة أن الصانع جل وعز خلقنا بمقتضى رحمته، وكلفنا بمقتضى حكمته، وجعل من أطاع له الجنة بمقتضى فضله، ومن أبى له النار بمقتضى عدله، من غير أن يكون طاعة المطيع علة لاستحقاق ما له جعل، وإباية من أبى علة أيضا لما له جعل، بل علة الجميع تخصيص إرادته وحكمته ومشيئته، فلم تكن الأعمال إلا علامة لأربابها الذين خلقت فيهم على ما يؤول إليه أمرهم من سعادة، أو ضدها، وقد اتفق حملة الشرع على أن الاعتماد على العمل شرك خفي، ولو كانت الأعمال موجبة للثواب لكان الاعتماد عليها واجبا، لا يكون مطلوب الترك والشرك مطلوب الشرك .

وفي الفقه الأبسط للإمام أبي حنيفة - رحمه الله تعالى-: وحق الله عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، فإذا فعلوا ذلك فحقهم عليه أن يغفر لهم ويثيبهم عليه. فأشار بالجملة الأخيرة إلى أن الأعمال لو كانت سببا موجبا للإثابة والعقاب لما تخلف، واللازم باطل; لثبوت العفو والمغفرة في البعض، كما في التوبة اتفاقا، وثبوت الهدم والإحباط عمن عاش على الكفر، ثم آمن، أو على الإيمان ثم كفر، واشتراط الموت على ذلك للاستحقاق يبطل الاستحقاق أصلا; لعدم الشرط عند تحقق العلة، وانقضاء العلة عند تحققه، كما في شرح المقاصد .

والمحدث يتمسك بقوله صلى الله عليه وسلم: "اعملوا; فكل ميسر لما خلق له"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته"، والأحاديث في ذلك كثيرة .

والصوفي يقول: من تحقق بعبودية نفسه على أنه لا شيء له يوجب الحظوة عند سيده إلا بفضله، وإلا لو كان شيء يوجب الحظوة غير الفضل لكان منازعا للسيد في سيادته، فافهم، والله أعلم .




الخدمات العلمية