الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ويدل عليه من النقل قول الأمة قاطبة ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن وقول الله عز وجل : أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا وقوله تعالى : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ويدل عليه من جهة العقل أن المعاصي والجرائم إن كان الله يكرهها ولا يريدها وإنما هي جارية على وفق إرادة العدو إبليس لعنه الله مع أنه عدو لله سبحانه والجاري على وفق إرادة العدو أكثر من الجاري على وفق إرادته تعالى فليت شعري كيف يستجيز المسلم أن يرد ملك الجبار ذي الجلال والإكرام إلى رتبة لو ردت إليها رياسة زعيم ضيعة لاستنكف منها ؟! إذ لو كان ما يستمر لعدو الزعيم في القرية أكثر مما يستقيم له لاستنكف من زعامته وتبرأ عن ولايته .

والمعصية هي الغالبة على الخلق وكل ذلك جار عند المبتدعة على خلاف إرادة الحق تعالى وهذا غاية الضعف والعجز ، تعالى رب الأرباب عن قول الظالمين علوا كبيرا .

التالي السابق


ثم شرع في الاحتجاج بالنقل وقرره بالإجماع ونصوص الكتاب، فأشار إلى الأول بقوله: (ويدل عليه من النقل قول الأمة قاطبة) سلفها وخلفها [ ص: 173 ] وإجماعهم على كلمة لا يجحدها معتزلي الإسلام قبل ظهور الاعتزال وبدعهم، وهو قولهم: (ما شاء) الله (كان، وما لم يشأ لم يكن) ، وهي تلزمها ثلاث قضايا، باعتبار العكس، نقيضا وتساويا، والمعتزلي يقول: ما شئت كان، وما شاء الله لم يكن. وهذه الكلمة دالة في عموم إرادته لسائر الكائنات (وقول الله عز وجل: أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ) ، أي: لكنه شاء هداية بعض، وإضلال بعض، كما دل عليه قوله: وما تشاءون إلا أن يشاء الله ، وهم قد شاؤوا المعاصي وفاقا، فكانت بمشيئة الله تعالى بهذا النص النافي لأن يشاؤوا شيئا إلا أن يشاء الله سبحانه، وفيه دليل على أنه لا دخل لمشيئة العبد إلا في الكسب، وإنما الإيجاد بمشيئة الله وتقديره، وكذلك قوله تعالى: ولو شاء لهداكم أجمعين ، (وقوله تعالى: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ) وفيها دليل ظاهر على أن الأمر غير الإرادة، وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل أحد، وأن ما أراده يجب وقوعه، كما في تفسير البيضاوي.

وقوله تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ، وفيه تصريح بتعلق إرادته بالهداية والإضلال، وقوله تعالى: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ، وفيه دليل على كمال قدرته ونفوذ مشيئته أنه لو شاء لآمن من في الأرض كلهم، فلا يبقى فيها إلا مؤمن موحد، ولكنه شاء أن يؤمن به من علم منه اختيار الإيمان به، وشاء ألا يؤمن به من علم أنه يختار الكفر ولا يؤمن به، كما في التيسير .

وقوله تعالى: ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ، وفيه دليل على أن الآية وإن عظمت فإنها لا تضطر إلى الإيمان، ومن علم الله منه اختيار الإيمان شاء له ذلك، ومن علم منه اختيار الكفر والإصرار عليه شاء له ذلك، كما في التأويلات الماتريدية .

وقوله تعالى: يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، وهو دليل ظاهر على أن الهداية والإضلال بخلق الله تعالى، وقوله تعالى: وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا ، وفيه دليل على أن الكفر بمشيئة لله تعالى، كما في تفسير البيضاوي، فقد خاف شعيب أن يكون سبق منه زلة أو تقصير يقع منه الاختيار لذلك، فيشاء الله ذلك، وإن كانوا معصومين، لكنهم خافوا ذلك، وكان خوفهم أكثر من خوف غيرهم، كما في التيسير والتأويلات الماتريدية ، وفيه أيضا دليل على أن الكفر ليس بمحبته ولا رضاه، كما في الإرشاد .

وقوله تعالى: فإنا قد فتنا قومك من بعدك ، أي: عاملناهم معاملة المختبر; ليظهر منهم بفعلنا ما كان في علمنا وتقديرنا أنهم يفعلونه .

وقوله تعالى: فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ، وقوله تعالى: وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ، وقوله تعالى: ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ، وهو دليل على أن إرادة الله تعالى يصح تعلقها بالإغواء، وأن خلاف مراده محال، كما في تفسير البيضاوي.

وقوله تعالى: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ، وفيه دليل على أن الأعمال بخلق الله تعالى وقضائه وقدره، وإليه أشير بصرف السوء عنه، وأن هم يوسف ليس بهم عزم، بل هم خطرة، ولا منع فيما يخطر بالقلب، وهو قول الحسن .

فهذه الآيات مجموع ما تمسك به الأصحاب، وفي شرح المقاصد: وللمعتزلة في تلك الآيات تأويلات فاسدة وتعسفات باردة، يتعجب منها الناظر، ويتحقق أنهم محجوبون، وبوصفها محقوقون، ولظهور الحق في هذه المسألة يكاد عامتهم به يعترفون ويجري على ألسنتهم أن ما لم يشأ الله لا يكون .

ثم العمدة القصوى لهم في الجواب عن أكثر الآيات حمل المشيئة على مشيئة القسر والإلجاء، وحين سئلوا عن معناها تحيروا، فقال العلامة: معناها خلق الإيمان والهداية فيهم بلا اختيار منهم .

ورد بأن المؤمن حينئذ يكون هو الله، لا العبد، على ما زعمتم من إلزامنا لما قلنا بأن الخالق هو الله تعالى، مع قدرتنا واختيارنا وكسبنا، فكيف بدون ذلك؟! فقال الجبائي: معناها خلق العلم الضروري بصحة الإيمان وإقامة الدلائل المثبتة لذلك العلم الضروري .

ورد بأن هذا لا يكون إيمانا، والكلام فيه على أن في بعض الآيات دلالة على أنهم لو رأوا كل آية ودليل لا يؤمنون البتة. فقال ابنه أبو هاشم: معناها أن يخلق لهم العلم بأنهم لو لم يؤمنوا لعذبوا عذابا شديدا، وهذا أيضا فاسد; لأن كثيرا من الكفار كانوا يعلمون ذلك ولا يؤمنون ،على [ ص: 174 ] أن قوله تعالى: ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ، يشهد بفساد تأويلاتهم; لدلالته على أنه إنما لم يهد الكل لسبق الحكم بملء جهنم، ولا خفاء في أن الإيمان والهداية بطريق الجبر لا يخرجهم عن استحقاق جهنم عندهم، وبالله التوفيق .

ثم أشار المصنف إلى الثاني، وهو دليل العقل، بقوله: (ويدل عليه) أي: على ما ادعيناه من تعلق الإرادة بكل كائن (من جهة العقل) هو (أن المعاصي والجرائم إن كان الله يكرهها ولا يريدها وإنما هي جارية) وواقعة (على وفق إرادة العدو) الأكبر (إبليس - لعنه الله- مع أنه عدو لله سبحانه) بنص الكتاب والسنة (والجاري على وفق إرادة العدو) المذكور، كما لا يخفى (أكثر من الجاري على وفق إرادته) عز وجل من الطاعات الجارية على مراده عز وجل، لزم رد ملك الجبار إلى رتبة خسيسة (فليت شعري كيف يستجيز المسلم) العاقل، أي: كيف يرى جائزا (أن يرد ملك الجبار) تعالى شأنه (ذي الجلال والإكرام) والعظمة والإنعام (إلى رتبة لو ردت إليها) أي: إلى تلك الرتبة (رياسة زعيم) أي: كفيل (ضيعة) أي: قرية (لاستنكف) ذلك الزعيم (منها؟!) وفي بعض النسخ: "عنها"، وذلك (إذ لو كان يستمر) أي: يدوم مطردا (لعدو) ذلك (الزعيم في) محل مملكته وولايته، أي: تلك (القرية) وقوع مراد عدوه (أكثر مما يستقيم له) أي: الزعيم (لاستنكف من زعامته) أي: رياسته وكفالته بأمور أهل تلك القرية (وتبرأ عن ولايته) لها .

(والمعصية) كما لا يخفى (هي الغالبة على الخلق) ، والطاعات هي الأقل (وكل ذلك جار عند المبتدعة) أي: المعتزلة، ومن تبعهم من أهل الأهواء (على خلاف إرادة الحق) تعالى، (وهذا غاية الضعف والعجز، تعالى رب الأرباب عن قول الظالمين علوا كبيرا) .

وحاصل هذا الجواب أن العقول قد قضت بأن قصور الإرادة وعدم نفوذ المشيئة من أصدق الآيات الدالة على سمات النقص، والاتصاف بالقصور والعجز، ومن ترسم للملك ثم كان لا ينفذ مراده في أهل مملكته، عد ضعيف المنة، مضياعا للفرصة، فإن كان ذلك يزري بمن ترسم للملك فكيف يجوز في صفة ملك الملوك ورب الأرباب؟! هكذا سياق إمام الحرمين في اللمع .

ويعني من سياقه أن أكثر أفعال العباد واقعة على ما يدعو إليه الشيطان ويريده، والطاعات التي يدعو إليها الله تعالى ويريدها هي الأقل، فإذا كان الأكثر واقعا على خلاف مراد الله تعالى اقتضى ذلك نقصا في الملك، وقصورا وعجزا، وهذا هو المحتج به على الوحدانية، وقد نقضه المعتزلة، إذ قالوا: إن الله تعالى يريد الإيمان والطاعة، ولا يقع مراده ، والعبيد يريدون الكفر والعصيان، ويقع مرادهم .




الخدمات العلمية