الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فينبغي أن يكون التدريس فيه والبحث عنه أيضا من فروض الكفايات بخلاف زمن الصحابة رضي الله عنهم فإن الحاجة ما كانت ماسة إليه .

فاعلم أن الحق أنه لا بد في كل بلد من قائم بهذا العلم مستقل يدفع شبه المبتدعة التي ثارت في تلك البلدة وذلك يدوم بالتعليم ولكن ليس من الصواب تدريسه على العموم كتدريس الفقه والتفسير فإن هذا مثل الدواء والفقه مثل الغذاء وضرر الغذاء لا يحذر ، وضرر الدواء محذور ؛ لما ذكرنا فيه من أنواع الضرر .

فالعالم الذي ينبغي أن يخصص بتعليم هذا العلم من فيه ثلاث خصال :

إحداها : التجرد للعلم والحرص عليه فإن المحترف يمنعه الشغل عن الاستتمام وإزالة الشكوك إذا عرضت .

الثانية الذكاء والفطنة والفصاحة فإن البليد لا ينتفع بفهمه والفدم لا ينتفع بحجاجه فيخاف عليه من ضرر الكلام ، ولا يرجى فيه نفعه .

الثالثة : أن يكون في طبعه الصلاح والديانة والتقوى ولا تكون الشهوات غالبة عليه فإن الفاسق بأدنى شبهة ينخلع عن الدين ؛ فإن ذلك يحل عنه الحجر ويرفع للسد الذي بينه وبين الملاذ فلا يحرص على إزالة الشبهة بل يغتنمها ؛ ليتخلص من أعباء التكليف فيكون ما يفسده مثل هذا المتعلم أكثر مما يصلحه .

التالي السابق


(فينبغي أن يكون التدريس فيه والبحث عنه أيضا من فروض الكفايات) وهذا (بخلاف زمان الصحابة) رضوان الله تعالى عليهم؛ (فإن الحاجة ما كانت ماسة إليه) إما لعدم ظهور البدع في زمانهم، أو لاكتفائهم بما أشرق الله من أنوار المشاهدة في صدورهم، فكانت الأمور الخفية بالنسبة إلينا جلية عندهم (فاعلم أن الحق) الذي لا محيد عنه (أنه لا بد في كل بلد) من بلاد الإسلام (من قائم بهذا العلم) أي: بإزائه (مستقل بدفع شبه المبتدعة الذين ثاروا في تلك البلدة) ونبغوا (وذلك يدوم بالتعليم) ويحفظ بالنشر والإفادة (ولكن ليس من الصواب تدريسه على العموم) أي: على عامة الناس (كتدريس الفقه والتفسير) ولوازمهما؛ (فإن هذا) أي: علم الكلام (مثل الدواء) الذي لا يحتاج إليه في كل وقت، وينتفع به آحاد الناس ويستضر به الآخرون .

(والفقه مثل الغذاء) للأبدان، الذي لا يستغنى عنه بحال في إقامة ناموس البدن (وضرر الغذاء لا يحذر، وضرر الدواء محذور؛ لما ذكرنا فيه من أنواع الضرر) التي لا تحصى (فالعالم به ينبغي أن يخصص بتعليم هذا العلم من) وجدت (فيه ثلاث خصال: إحداها: التجرد للعلم) والاستعداد لطلب [ ص: 63 ] المعرفة (والحرص عليه) بالانكباب على درسه وتعلمه؛ (فإن المحترف) أي: المشتغل بالحرفة والصناعة (يمنعه الشغل) الذي هو فيه (عن الاستتمام وإزالة الشكوك إذا عرضت) ؛ لعدم استعداده لذلك (والثانية الذكاء) وهو سرعة الإدراك وحدة الفهم، وقيل: هو سرعة اقتراح النتائج (والفطنة) وهي سرعة هجوم على حقائق معان، مما تورده الحواس عليها (والفصاحة) وهي ملكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود (فإن البليد) المتحير في أمره الذي لا يوصف بذكاء ولا فطنة (لا ينتفع بفهمه) بل هو دائما حيران في أمره (والفدم) وهو البطيء الفهم (لا ينتفع بحجاجه) أي: بمحاجته (فيخاف عليه من ضرر الكلام، ولا يرجى فيه نفعه، والثالثة: أن يكون في طبعه الصلاح) وهو ضد الفساد، ويختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال، وقوبل في القرآن تارة بالفساد، وأخرى بالسيئة، (والديانة) وهي التمسك بأمور الدين (والتقوى) وهي تجنب القبيح؛ خوفا من الله تعالى (ولا تكون الشهوات) النفسية (غالبة عليه) وفي معنى الشهوات التعصبات للمذاهب، والمباهاة بالمعارف (فإن الفاسق بأدنى شبهه) إذا عرضت (ينخلع عن) ربقة (الدين؛ فإن ذلك يحل عنه الحجز) أي: الستر الحاجز (ويرفع الستر بينه وبين الملاذ) الشهوانية (فلا يحرص على إزالة الشبهة) ودفعها (بل يغتنمها؛ ليتخلص من أعباء التكليف) ومشقاته (فيكون ما يفسده مثل هذا المتعلم أكثر مما يصلحه) .

وقال المصنف في "إلجام العوام": التحدث في هذا العلم للعالم إنما يكون على أربعة أوجه: إما أن يكون مع نفسه، أو مع من هو مثله في الاستبصار، أو مع من هو مستعد للاستبصار بذكائه وفطنته وتجرده لطلب معرفة الله، أو مع العامي، فإن كان قاطعا -أي: لا ظانا- أي: غير حاكم مع نفسه بموجب ظنه حكما جازما، فله أن يحدث نفسه به، ويحدث من هو مثله في الاستبصار، وهو متجرد لطلب المعرفة، مستعد لها، خال عن الميل إلى الدنيا والشهوات والتعصبات للمذاهب، وطلب المباهاة بالمعارف والتظاهر بذكرها مع العوام، فمن اتصف بهذه الصفات فلا بأس بالتحدث معه; لأن الفطن المتعطش إلى المعرفة للمعرفة، لا لغرض يحيك في صدره إشكال الظواهر، وربما يلقيه في التأويلات الفاسدة؛ لشدة شرهه عن الفرار عن الظواهر ومقتضاها، ومنع العلم أهله ظلم، كبثه إلى غير أهله، وأما العامي فلا يحدث به، وفي معنى العامي كل من لا يوصف بالصفات المذكورة، وأما المظنون فيحدث به مع نفسه اضطرارا؛ فإن ما ينطوي عليه الذهن من ظن وشك وقطع لا تزال النفس تحدث به، ولا قدرة على الخلاص منه، ولا منع منه، ولا شك في منع التحدث به مع العوام، بل هو أولى بالمنع من المقطوع، أما تحدثه به مع من هو في مثل درجته في المعرفة، أو مع المستعد له، ففيه نظر، فيحتمل أن يقال: هو جائز؛ إذ لا يزيد على أن يقول: أظن كذا، وهو صادق، ويحتمل المنع; لأنه قادر على تركه وهو بذكره متصرف بالظن في صفة الله تعالى، أو في مراده من كلامه، وفيه خطر، وإباحته إنما تعرف بنص أو إجماع أو قياس على منصوص، ولم يرد شيء من ذلك، بل ورد قوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم . اهـ .




الخدمات العلمية