الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
القسم الثاني من الخفيات التي تمتنع الأنبياء والصديقون عن ذكرها ما هو مفهوم في نفسه لا يكل الفهم عنه لكن ذكره يضر بأكثر المستمعين ولا يضر بالأنبياء والصديقين .

وسر القدر الذي منع أهل العلم من إفشائه من هذا القسم فلا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضرا ببعض الخلق كما يضر نور الشمس بأبصار الخفافيش وكما تضر رياح الورد بالجعل وكيف يبعد هذا وقولنا : إن الكفر والزنا والمعاصي والشرور كله بقضاء الله تعالى وإرادته ومشيئته حق في نفسه وقد أضر سماعه بقوله إذ أوهم ذلك عندهم أنه دلالة على السفه ونقيض الحكمة ، والرضا بالقبيح والظلم وقد ألحد ابن الراوندي وطائفة من المخذولين بمثل ذلك .

وكذلك سر القدر لو أفشي لأوهم عند أكثر الخلق عجزا إذ تقصر أفهامهم عن إدراك ما يزيل ذلك الوهم عنهم ولو قال قائل : إن القيامة لو ذكر ميقاتها وأنها بعد ألف سنة أو أكثر أو أقل ، لكان مفهوما ولكن لم يذكر لمصلحة العباد ، وخوفا من الضرر فلعل المدة إليها بعيدة فيطول الأمد وإذا استبطأت النفوس وقت العقاب قل اكتراثها ولعلها كانت قريبة في علم الله سبحانه ولو ذكرت لعظم الخوف وأعرض الناس عن الأعمال وخربت الدنيا فهذا المعنى لو اتجه وصح فيكون مثالا لهذا القسم .

التالي السابق


(القسم الثاني من الخفايا التي تمتنع الأنبياء) عليهم السلام (والصديقون) ومن على قدمهم من الأولياء العارفين والعلماء الراسخين (عن ذكرها) وبيانها (ما هو مفهوم في نفسه) أي: في حد ذاته (لا يكل الفهم عنه) ولا يقصر عن إدراكه (ولكن ذكرها يضر بأكثر المستمعين) بالافتتان في دينه (ولا يضر بالأنبياء والصديقين) ؛ لرسوخ قدمهم، وعدم تزلزلهم في المعرفة الحقيقية، وأكثر المستمعين لا يخلو إما أن يكون جاهلا، فذكره له توريط في الكفر من حيث لا يشعر، أو عارفا فعجزه عن تفهيمه كعجز البالغ عن تفهيم ولده الصبي مصالح بيت وتدبيره، بل عن تفهيمه مصلحته في خروجه إلى المكتب، بل عجز الصانع عن تفهيم النجار دقائق صناعته، فإن النجار وإن كان بصيرا في صناعته فهو عاجز عن دقائق الصناعة، فالمشغولون بالدنيا وبالعلوم التي ليست من قبيل معرفة الله تعالى عاجزون عن معرفة الأمور الإلهية، كعجز كافة المعرضين عن الصناعات وعن فهمها .

(وسر القدر الذي منع أهل العلم من إفشائه من هذا القسم) وقد أنكر -صلى الله عليه وسلم- على قوم يتكلمون في القدر ويسألون عنه، وقال: "أبهذا أمرتم؟!"، (فلا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضرا بعض الخلق) مفتنا لهم في دينهم (كما يضر نور الشمس بأبصار الخفافيش) جمع خفاش، طائر معروف (وكما تضر رياح الورد بالجعل) بضم الجيم وفتح العين، نوع من الخنافس يدحرج العذرة، وقد نظمه ابن الوردي في لاميته بقوله:


أيها الجاعل قولي عبثا إن طيب الورد مؤذ بالجعل



(وكيف يبعد هذا وقولنا: إن الكفر والزنا و) سائر (المعاصي والشرور بقضاء الله تعالى وإرادته ومشيئته حق في نفسه) أي: في حد ذاته (وقد أضر سماعه بقوم) من المعتزلة (إذ أوهم ذلك عندهم دلالة على السفه) ضد الرشد (ونقيض الحكمة، والرضا بالقبيح والظلم) فنسبوا ذلك إلى فعل العبد وتخليقه؛ فرارا مما أوهموا فيه وتوهموه، وسموا أنفسهم بأهل العدل في التوحيد، وهم بعيدون عن العدل .

(وقد ألحد ابن الراوندي) رجل من مشهوري الملاحدة، وله كتاب أيضا في بيان معتقد المعتزلة، وكلامه محشو بالكفريات يتناشده الناس، وراوند التي نسب إليها قرية بقاشان من أعمال أصبهان، وأصلها شيعة (وطائفة من المخذولين) الذين على قدمه في سوء الاعتقاديات (بمثل ذلك) أي: بمثل قول المعتزلة، فزعم جمهورهم أن المعاصي كلها كانت من غير مشيئة لله فيها، وزعم البغداديون منهم أن الله تعالى لم يخلق لأحد شهوة الزنا ولا شهوة شيء من المعاصي، كما زعموا أنه ما خلق لأحد إرادة المعصية، وزعم البصريون منهم أنه خالق الشهوات للإنسان، الزنا والمعاصي، ولا يجوز أن يخلق إرادة الزنا والمعصية.

(وكذلك سر القدر لو أفشي) أي: أظهر (أوهم أكثر الخلق عجزا) في قدرة الله تعالى؛ (إذ تقصر أفهامهم عن إدراك ما يزيل ذلك الوهم) ويصرفه عنهم بأول وهلة؛ فلذلك جاء الأمر بالكتمان في بعض الحقائق دون بعض (ولو قال قائل: إن القيامة لو ذكر ميقاتها) المعلوم (وأنها) تقوم (بعد) مضي (ألف سنة) من الهجرة مثلا (أو أكثر أو أقل، لكان ذلك [ ص: 75 ] مفهوما) أي: معلوما في الأذهان (ولكن لم يذكر) ذلك؛ نظرا (لمصلحة العباد، وخوفا من) وقوع الناس في (الضرر) والفساد (فلعل المدة إليها بعيدة فيطول الأمد) فتقسو قلوبهم (وإذا استبطأت النفوس) البشرية (العقاب) وعلمته بعيدا (قل اكتراثها) في أمور الآخرة (ولعلها كانت قريبة في علم الله تعالى) ، ولكن (لو ذكرت) أي: ذكر ميقاتها (لعظم الخوف) وامتلأت الصدور من الرهبة (وأعرض الناس عن الأعمال) الخيرية (وخربت الدنيا) وبطل نظامها، فلأجل هذه النكتة أخفي أمرها (فهذا المعنى لو اتجه وصح فيكون مثالا لهذا القسم) الثاني في أن أصل ذلك مفهوم، لا يكل الفهم عنه، ولكن ذكره مضر بالأكثرين .




الخدمات العلمية