الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
مسألة .

فإن قلت : تعلم الجدل والكلام مذموم كتعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه ؟ فاعلم أن للناس في هذا غلوا وإسرافا في أطراف ، فمن قائل : إنه بدعة أو حرام وأن العبد إن لقي الله عز وجل بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام ومن قائل : إنه واجب وفرض ، إما على الكفاية أو على الأعيان وأنه أفضل الأعمال وأعلى القربات فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله تعالى .

وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل ، وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف .

قال ابن عبد الأعلى رحمه الله سمعت الشافعي رضي الله عنه يوم ناظر حفصا الفرد ، وكان من متكلمي المعتزلة يقول لأن يلقى الله عز وجل العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يلقاه بشيء من علم الكلام ولقد سمعت من حفص كلاما لا أقدر أن أحكيه وقال أيضا : قد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننته قط ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام .

التالي السابق


(مسألة، فإن قلت: تعلم الجدل والكلام) هل هو (مذموم كعلم النجوم) وما يجرى مجراه (أو هو مباح) لا يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه (أو) هو (مندوب إليه؟) ما الجواب عن ذلك؟ (فاعلم أن للناس في هذا) المبحث (غلوا) أي: تجاوزا عن الحد (وإسرافا) أي: إبعادا في المجاوزة عنه (في أطراف، فمن قائل: إنه بدعة) قبيحة (وحرام) لا يحل الاشتغال به .

(وإن العبد إن لقي الله بكل ذنب سوى) وفي نسخة: "ما خلا" (الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام) ، وهو قول الشافعي، كما سيأتي سنده (ومن قائل: إنه واجب) تعلمه (وفرض، إما على الكفاية) وهو قول أكثر المتأخرين من المتكلمين (أو على الأعيان) وهو أبعد الأقوال؛ فإن الله سبحانه وتعالى لم يفرض على كل إنسان أن يكون متكلما جدليا، والقائلون بوجوبه يقولون: (إنه أفضل الأعمال) أي: الاعتقادية (وأعلى القربات) إلى الله تعالى .

(فإنه تحقيق لعلم التوحيد) الذي هو متضمن على معرفة وحدانية الله تعالى بما يليق بذاته وصفاته (ونضال) أي: دفاع (عن دين الله تعالى) برد شبه المخالفين، وإبطال براهين الزائغين، والواجب العيني في التوحيد ما يخرج المكلف من التقليد إلى التحقيق، وأقله معرفة كل عقيدة بدليل، ولو جميلا، والكفائي فيه ما يقتدر معه على تحقيق مسائله وإقامة الأدلة التفصيلية عليها، وإزالة الشبه عنها، إذ يجب كفاية على أهل كل قطر يشق الوصول منه إلى غيره أن يكون فيهم من هو متصف بذلك، ولا يخفى أن حصول ذلك متوقف على تعلم علم الكلام .

(وإلى التحريم ذهب الأئمة) الأربعة أبو حنيفة و (الشافعي ومالك وأحمد بن) محمد بن (حنبل، وسفيان) الثوري وأبو يوسف (وجميع أهل الحديث من السلف) الصالحين، (قال أبو عبد الأعلى) : هكذا في النسخ، وهو يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة الصوفي أبو موسى المصري الفقيه المقري ولد سنة 170، وسمع الحديث عن ابن عيينة وابن وهب والوليد بن مسلم ومنصور بن عيسى والشافعي، واختص به، روى عنه مسلم والنسائي وابن ماجه وأبو عوانة وأبو الطاهر المديني وخلق: (سمعت الشافعي -رحمه الله تعالى- يقول يوما وقد ناظر حفصا الفرد، وكان من متكلمي المعتزلة) قلت: حفص هذا يلقب بالفرد، تفقه على الإمام أبي يوسف، وكان من أصحابه، ثم مال إلى رأي المعتزلة، وصار يناضل عنهم حتى صار من متكلميهم، وقال الربيع: كان الشافعي يقول له: حفص المنفرد، ولا يقول: الفرد: (لأن يلقى الله تعالى العبد بكل خطيئة ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام) ، روي هذا القول عن الإمام من وجوه، أخرجه ابن أبي حاتم في كتاب المناقب له، قال: سمعت الربيع قال: أخبرني من سمع الشافعي يقول: لأن يلقى الله المرء بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء، رواه غير واحد عن الربيع أنه سمع الشافعي يقول، وقال ابن خزيمة: سمعت الربيع لما كلم الشافعي حفصا الفرد فقال حفص: القرآن مخلوق. فقال له الشافعي: كفرت بالله العظيم. ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع: حدثني من أثق به، وكنت حاضرا في المجلس، فساقه (ولقد سمعت من حفص كلاما ما أقدر أن أحكيه) وهو قوله: إن القرآن مخلوق .

(وقال أيضا: قد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننته قط) أخرجه اللالكائي من رواية عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي [ ص: 48 ] الشافعي: تعلم يا أبا موسى، لقد اطلعت من أصحاب الكلام على شيء ما ظننت أن مسلما يقول ذلك (لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام) ، أخرجه اللالكائي من رواية أبي نعيم عبد الملك بن محمد الجرجاني يقول: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول -وناظره رجل من أهل العراق فخرج إلى شيء من الكلام فقال:- هذا من الكلام، دعه. قال: وسمعت الشافعي يقول: لأن يبتلي الله المرء بكل ذنب نهى الله عنه ما عدا الشرك به خير له من الكلام.




الخدمات العلمية