الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
إذ لو " فتشنا عن قلوب المؤمنين لم نجد فيها أصابع ، فعلم أنها كناية عن القدرة التي هي سر الأصابع وروحها الخفي وكنى بالأصابع عن القدرة ; لأن ذلك أعظم وقعا في تفهم تمام الاقتدار .

ومن هذا القبيل في كنايته عن الاقتدار قوله تعالى : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ؛ فإن ظاهره ممتنع ، إذ قوله : " كن " إن كان خطابا للشيء قبل وجوده فهو محال إذا ، المعدوم لا يفهم الخطاب حتى يمثل وإن كان بعد الوجود فهو مستغن عن التكوين .

ولكن لما كانت هذه الكناية أوقع في النفوس في تفهيم غاية الاقتدار ، عدل إليها وأما المدرك بالشرع فهو أن يكون إجراؤه على الظاهر ممكنا ، ولكنه يروى أنه أريد به غير الظاهر كما ورد في تفسير قوله تعالى أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ، الآية وأن معنى الماء ههنا هو القرآن ومعنى الأودية هي القلوب ، وأن بعضها احتملت شيئا كثيرا وبعضها قليلا وبعضها لم يحتمل .

والزبد مثل الكفر والنفاق فإنه وإن ظهر وطفا على رأس الماء فإنه لا يثبت والهداية التي تنفع الناس تمكث .

وفي هذا القسم تعمق جماعة فأولوا ما ورد في الآخرة من الميزان والصراط وغيرهما وهو بدعة إذ لم ينقل ذلك بطريق الرواية وإجراؤه على الظاهر غير محال ، فيجب إجراؤه على الظاهر .

التالي السابق


(وخالف فيه قوم) من المتأخرين، فقالوا لا بد من تأويله (إذ لو فتشنا عن صدور المؤمنين لم نجد فيها أصابع، فعلم أنها ليست) عبارة عن جسم مخصوص بصفات مخصوصة، والجسم عبارة عن متقدر له طول وعرض وعمق يمنع غيره من أن يوجد بحيث هو، إلا أن يتنحى عن ذلك المكان، بل (كناية عن) معنى آخر ليس ذلك المعنى بجسم أصلا، وهي (القدرة التي هي سر الأصابع وروحها الخفي) فيها (و) إنما (كني بالأصابع عن القدرة; لأن ذلك أعظم وقعا) في النفوس (في تفهم تمام الاقتدار) فيقال: فلان يلاعب فلانا على أصبعه، أو البلدة الفلانية في أصبع الأمير، فعلى العامي وغير العامي أن يتحقق قطعا ويقينا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرد بذلك اللفظ جسما، وهو عضو مركب من لحم ودم; لأن ذلك على الله تعالى محال، وهو عنه مقدس .

(ومن هذا القبيل في كنايته عن الاقتدار) أي: كمال القدرة (بقوله تعالى : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ؛ فإن ظاهره ممتنع، إذ قوله: "كن" إن كان خطابا للشيء قبل وجوده فهو محال، إذ المعدوم) الذي لم يوجد بعد (لا يفهم الخطاب حتى يمتثل) فالامتثال فرع عن فهم الخطاب، وفهم الخطاب فرع من أهليته له، وذلك فرع عن الوجود، فما لا يوجد كيف يخاطب (وإن كان بعد الوجود فهو مستغن عن التكوين) وهو إيجاد شيء مسبوق بمادة .

(ولكن لما كانت هذه الكناية أوقع في النفوس في تفهم غاية الاقتدار، عدل إليها) أي: الكناية، فهذا هو الدليل العقلي (وأما المدرك بالشرع) دون العقل (فهو أن يكون إجراؤه على الظاهر ممكنا، ولكنه يروى) من طرق صحيحة (أنه أريد به غير الظاهر) مثال هذا (كما ورد في تفسير قوله) -عز وجل- ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ، الآية) أي: إلى [ ص: 77 ] آخر الآية، وهو قوله: فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض .

(وإن معنى الماء) النازل من السماء (هو القرآن) الذي أنزله على رسوله، فالتشبيه لما يحصل بكل واحد منهما من الحياة ومصالح العباد في معاشهم ومعادهم (ومعنى الأودية هي القلوب، وأن بعضها احتملت شيئا كثيرا) لاتساعه كواد عظيم يسع ماء كثيرا (وبعضها) احتملت (قليلا) كواد صغير إنما يسع ماء قليلا (وبعضها لم يحمل) شيئا، كالوادي الذي فيه قيعان، وهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن والعلم حين تخالط القلوب بشاشته (والزبد مثل الكفر) والشبهات الباطلة، فتطفو على وجه القلب، فالقرآن أو العلم يستخرج ذلك الزبد كما يستخرج السيل من الوادي زبدا يعلو فوق الماء، وأخبر سبحانه أنه راب يطفو ويعلو على الماء (فإنه) أي: الزبد (وإن ظهر وطفا على رأس الماء) وفي نسخة: "على وجه الماء" (فإنه لا يثبت) في أرض الوادي ولا يستقر، كذلك الكفر والشبهات الباطلة إذا أخرجها العلم المستنبط من القرآن ربت فوق القلوب وطفت، فلا تستقر فيه، بل تجفى وترمى (والهداية التي تنفع الناس تمكث) في القلب وتستقر كما يستقر في الوادي الماء الصافي ويذهب الزبد جفاء .

ثم ضرب سبحانه لذلك مثلا آخر، فقال: ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع يعني: إن ما يوقد عليه بنو آدم من الذهب والفضة والنحاس والحديد يخرج منه خبثه وهو الزبد الذي تلقيه النار وتخرجه من ذلك الجوهر بسبب مخالطتها؛ فإنه يقذف ويلقى فيه ويستقر الجوهر الخالص وحده، وضرب سبحانه مثلا لما فيه من الحياة والتبريد والمنفعة، ومثلا بالنار لما فيها من الإضاءة والإشراق والإحراق، فآيات القرآن تحيي القلوب كما تحيا الأرض بالماء، وتحرق خبثها وشبهاتها وشهواتها وسخائمها كما تحرق النار ما يلقى فيها، وتميز زبدها من زبدها، كما تميز النار الخبث من الذهب والفضة والنحاس ونحوه، فهذا بعض ما في هذا المثل العظيم من العبرة والعلم، قال الله تعالى: وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون .

(وفي هذا القسم تعمق جماعة) من المبتدعة وتجاوزوا عن الحدود (فأولوا ما ورد في) أمور (الآخرة من الميزان والصراط وغيرهما) كوزن الأعمال وتطاير الصحف في اليمين والشمال وغير ذلك (وهو) أي: التأويل في مثل هذه الأمور (بدعة) قبيحة؛ إذ (لم ينقل ذلك بطريق الرواية) عن الثقات، وليت شعري ما الذي حملهم على تأويلها (وإجراؤها على الظاهر غير محال، فيجب إجراؤه على الظاهر) ويسد باب التأويلات في مثل ذلك .




الخدمات العلمية